كنّا عشاقاً هناك
رباح آل جعفر
إذا كان الكائن الحي كائناً كلما جاع يضعف، فإن الشوق كائن كلما جاع يكبر. أيّام زمان ونحن صغار كنّا نحضر في مجالس الدراويش. كانوا يردّدون “الله حيّ” هو الحيّ الباقي واجب الوجود.. فنقول مثلما يقولون، وندور في حلقاتهم، وننشد معهم أشعار ابن الفارض:
أدِرْ ذِكْرَ مَن أهوى ولو بملامِ
فإنّ أحاديـثَ الحبيـبِ مُدامي
كانت أنفاسنا ابتهالات وفي نظراتنا صلوات.. وكانت قلوبنا تبكي شوقاً إلى ذلك الحبيب، ونحن نتأوّه ونتوجدن ونتعذب ونكتم ونريد الوصل في مقام الحبيب.
وعندما كبرنا قرأنا الفلسفة وقرأنا كتب التصوف.. وعرفنا أن الشوق حال من أحوال التسامي في العلياء. وأن الفلسفة من طاليس إلى ديكارت لا تزيد عن كلمتين: الوجود موجود، وواجب الوجود هو الله. أعظم من كل العظماء وأحكم من كل الحكماء، وما سواه عدم وفناء.. ثم تتعطل لغة الكلام إلا من طيف كلام يحلّ محلّ طيف المنام!.
فما هذه الأشواق؟ ما هذه المقامات التي في العلياء؟ ما هذا الإنسان أمام عظمة الكون؟ إنه عود من القشّ.. إنه أضعف المخلوقات كما يقول باسكال. قطرة ماء إذا وقفت في داخل فمه كانت كافية لقتله.
كان شيخ الفلاسفة سقراط يجمع حوله التلامذة ليبدأ التفكير من الإنسان. وكان أستاذهم أرسطو يمشي ويقول: إن المعرفة تعني بداية الدهشة. وكان ديكارت يفكر ويتأمل من الشك حتى يصل إلى اليقين. ومن أجمل الكتب التي قرأتها كتاب “المنقذ من الضلال” للإمام الغزالي. إنه كتاب قليل الصفحات لكنه عميق المعاني يدعونا إلى حرية الأسئلة بلا حدود.
فماذا وجد الإنسان هناك؟ وجد أن الكون عمره 15 ألف مليون سنة في أقل تقدير. وأن الكرة الأرضية ليست إلا أحد الكواكب التابعة لنجم واحد هو الشمس، والشمس ليست إلا إحدى النجوم في مجموعة هائلة اسمها المجرّة، وفي المجرّة ملايين النجوم، وفي الكون ملايين المجرّات، وكلها تدور حول نفسها، ولا أحد يعرف أين مركز الكون، ولا يعرف إلى أين؟!.
وكلما انطلق مسبار فضائي قلنا هانت علينا المسائل، وتيّسرت الأمور، واقتربنا من المعرفة. ثم نكتشف أننا لا نزال ندور عند القشور وأن ما قيل لم يُقل. والعلماء يكتشفون في كل مرة شيئاً جديداً يُدهشهم. إنهم حيارى. ولا جواب لديهم عن ملايين الأكوان إلا قوله سبحانه: “وما أُوتِيتُم من العِلمِ إلا قليلاً”.
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً. قالها أبو ماضي. فكلهم متفقون أن هذا التشكيل الأعظم من التدبير والعناية والنظام يدل على وجود البارئ، المصور، المصمم، المدبّر، الخالق، العلّة الأولى، وسبب جميع الأسباب.. إنه العقل عند انكساغوراس، والوجود عند بارمنيدس، والصانع عند أفلاطون، والمحرك عند أرسطو، والفيض عند أفلوطين، وواجب الوجود عند الفارابي، والكامل عند ديكارت، والمطلق عند هيجل. وهو الذي ليس كمثله شيء، عندي وعندكم وعند هؤلاء جميعاً.
يقيناً لو قام هؤلاء الفلاسفة والعلماء من اليوناني سقراط إلى الألماني أينشتاين برحلة أسطورية حول الفضاء. ورأوا بعيونهم ماذا يجري تحت تلك السماوات الواسعة البديعة من معزوفة كونية هندسية متناسقة الأنغام؟ لعادوا إلينا مثل دراويش في تكية. ولو نادى بهم أحد المريدين: ماذا وجدتم هناك؟. سيقولون رغم غرورهم: الله!.