باكستان تدفع ثمنا باهظا لأزمتها الداخلية
الصورة الأشمل مروعة أكثر حيث يمكن القول إن باكستان هي الرجل المريض في جنوب آسيا فقد تجاوزتها نظيرتاها الإقليميتان بنغلادش والهند منذ فترة طويلة في مؤشرات التنمية البشرية.
باكستان الرجل المريض في جنوب آسيا
بينما الاقتصاد الباكستاني يعاني من فوضى عميقة، أودت فيضانات الصيف الموسمية بحياة أكثر من ألف شخص وألحقت أضرارا ودمارا يقدّر بالمليارات من الدولارات حسب خبراء. ورغم خطة إنقاذ صندوق النقد الدولي، يبقى وضع باكستان غير مستقر. وتغطي احتياطيات النقد الأجنبي في البلاد أقل من شهرين من الواردات. كما تتراجع الصادرات والتحويلات المالية. ويستمر ارتفاع خطر التخلف عن إيفاء حكومة باكستان بالتزاماتها، ويتضح ذلك جليا في مقايضة العجز عن سداد الائتمان. ويغوص تصنيف البلاد الائتماني السيادي عميقا، لتفقد أي جاذبية لها من قبل المستثمرين. ويبقى تسليم الدفعة التالية من صندوق النقد الدولي غير مؤكد حيث يصر أولا على أن توسع باكستان وتنوع من مصادر إيراداتها.
وتبدو الصورة الأشمل مروعة أكثر. حيث يمكن القول إن باكستان هي الرجل المريض في جنوب آسيا. فقد تجاوزتها نظيرتاها الإقليميتان بنغلادش والهند منذ فترة طويلة في مؤشرات التنمية البشرية مثل معدل وفيات الرضع وتراجع الأمية والناتج القومي الإجمالي.
رغم ذلك، يركز حكام باكستان جهودهم على أمر لا يخدم رفاهية سكانها البالغ عددهم 220 مليون نسمة: من سيقود جيش البلاد؟
خلال الشهر الحالي أمضى رئيس الوزراء شهباز شريف خمسة أيام في لندن يتناقش مع شقيقه، رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف، للإجابة على هذا السؤال بالذات.
يجب على الحكومة والمعارضة الاتفاق على مرشح توافقي كرئيس للجيش للخروج من هذه الأزمة، وتحديد جدول زمني لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وإطلاق محادثة حول إصلاحات عميقة في الاقتصاد والحوكمة
والخيارات المطروحة أمامهما هي تمديد ولاية قائد الجيش الحالي الجنرال قمر جاويد باجوا إلى ما بعد تاريخ تقاعده المقرر في التاسع والعشرين من نوفمبر أو اختيار بديل من بين كبار القادة.
بعد أيام من عودة شريف إلى إسلام أباد، أعلن خصمه الرئيسي، رئيس الوزراء السابق عمران خان، أن ما يسمى المسيرة الطويلة ستصل إلى روالبندي (مقر الجيش الباكستاني) في السادس والعشرين من نوفمبر.
من الواضح أن التاريخ، السابق لتسليم باجوا القيادة لخلفه، يهدف بوضوح إلى التأثير على انتقال قيادة الجيش أو حتى فرض أزمة دستورية.
ويؤدي اختيار قائد الجيش الباكستاني المقبل وموعد الانتخابات العامة إلى حدوث اضطراب سياسي بعد أن تم عزل خان في تصويت بحجب الثقة عنه في أبريل الماضي. ويجب إجراء الاقتراع مع حلول الخريف المقبل. ويرغب خان، الذي نجا من محاولة اغتيال في الثالث من نوفمبر، في تنظيمها في وقت أقرب. ويود خان وشريف أن يكون قائد الجيش القادم حليفا له، أو ليس خصما على الأقل.
ويعكس تركيز النخبة السياسية على اختيار القائد العسكري التأثير التاريخي الضخم وغير الدستوري للجيش الباكستاني، حتى عندما لا يحكم البلاد بشكل مباشر.
وشغل رئيس الجيش الحالي منصب صانع الملوك خلال فترة ولايته. وسهّل باجوا صعود خان إلى السلطة في 2018، وساعد في حفاظه على حكمه، ثم دبّر سقوطه من السلطة. وكان “طلاق” باجوا عن خان مبررا جزئيا بادعاءات أنه سيساعد في إنعاش الاقتصاد الباكستاني وتحسين علاقات البلاد مع الشركاء الأجانب المقربين.
لكن الاضطرابات السياسية هذا العام أدت إلى تراجع باكستان، مما أدى إلى تفاقم مشاكلها الاقتصادية وإضعاف مكانتها على المسرح العالمي. وتمتنع القوى العالمية والإقليمية عن اتخاذ قرارات سياسية رئيسية تجاه البلاد حتى يتحقق الاستقرار السياسي.
وتتحرك واشنطن بحذر قبل إشراك إسلام أباد وروالبندي في سعيها لتجنب المزيد من التورط في صراعات السلطة المحلية. ويرجع تأجيل زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى إسلام أباد هذا الشهر جزئيا إلى مسيرة خان الطويلة. كما تضررت علاقات باكستان مع الصين التي تعتبر أقرب شريك لها.
وعاد رئيس الوزراء شريف من زيارة لبكين خلال الشهر الحالي دون تحقيق إنجازات تُذكر. وكانت رحلته الأولى إلى الصين بصفته رئيسا للوزراء بعد أكثر من 200 يوم في المنصب. وكانت الفترة الفاصلة الأطول لأي رئيس حكومة باكستاني هذا القرن. فعلى سبيل المقارنة، زار شقيقه نواز بكين في 2013 بعد شهر من توليه منصبه. وكانت أول رحلة لخان إلى الصين في 2018 بعد أقل من 80 يوما من توليه رئاسة الوزراء.
رغم خطة إنقاذ صندوق النقد الدولي، يبقى وضع باكستان غير مستقر. وتغطي احتياطيات النقد الأجنبي في البلاد أقل من شهرين من الواردات. كما تتراجع الصادرات والتحويلات المالية
وسيؤدي غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي الكلي إلى جعل الدول الصديقة تُحجم عن الاستثمار الذي تحتاجه باكستان للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية.
وتبدو النخب الباكستانية معتادة على استجابة المجتمع الدولي لاحتياجاتها لأن الدولة المسلحة نوويا يُنظر إليها على أنها أكبر من أن تفشل. لكن يجب أن تتكيف مع الوضع الطبيعي الجديد. حيث انتهى عصر حزم المساعدات الضخمة، ويعد الاستثمار الأجنبي المباشر اليوم أمرا حاسما لوضع البلاد على طريق النمو الاقتصادي المستدام.
لكن، لن يُنظر إلى باكستان على أنها شريك موثوق به أو على أنها سوق قابل للاستثمار حتى ترتّب أوضاعها الداخلية. أولا وقبل كل شيء، يتطلب ذلك تخلي الجيش الباكستاني عن التدخل في العمل السياسي لأنه لم يعد بإمكان البلد القبول باقتصار دور الزعامات السياسية على مجرد أداء عمل بيروقراطي.
ويجب على الحكومة والمعارضة الاتفاق على مرشح توافقي كرئيس للجيش للخروج من هذه الأزمة، وتحديد جدول زمني لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وإطلاق محادثة حول إصلاحات عميقة في الاقتصاد والحوكمة. وستدعم القوة الداخلية علاقات باكستان الخارجية كما فعلت في الهند. حيث تتودد واشنطن إلى نيودلهي رغم أنها لا تزال شريكة موسكو. وتعمل قوة الهند الاقتصادية، المتجذرة في الإصلاحات الاقتصادية التي وضعها وزير المالية الأسبق مانموهان سينغ عام 1991، كأساس لاستقلاليتها الإستراتيجية وسعيها الواضح لتحقيق مصالحها الوطنية.
وقد أدت إصلاحات سينغ خلال أزمة 1991 الاقتصادية إلى ثلاثة عقود من النمو. ويتعين على النخبة الباكستانية بالمثل اغتنام الفرصة في فترة الاضطرابات هذه.
عارف رفيق
باحث سياسي