صفحات من التاريخ الإسلامي / فاتح إفريقيا

بقلم د.محمد فتحي عبد العال تشرين2/نوفمبر 27, 2022 173

 

د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري

يقول الله تعالى في كتابه الحكيم في سورة التوبة : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111))
ومن هؤلاء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف ونحسبه عند الله كذلك ولا نزكي على الله أحدا القائد المسلم عقبة بن نافع بن عبد القيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن الظرب بن الحارث بن عامر بن فهر القرشي أحد التابعين ممن أدركوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقوه وذلك لحداثة عمره وقتها إذ جاء مولده في أقرب الروايات للمنطق قبل الهجرة النبوية بعام واحد ونسبه قرشي يلتقي بالجد العاشر للنبي صلى الله عليه وسلم فما بعده...
وتجمعه صلة قرابة بعمرو بن العاص داهية العرب قيل أخوه من الأم وقيل ابن خالته وقيل ابن أخته..وعلى الرغم من القربى في النسب لكن شتان بين الرجلين في إدارة الأمور والقدرة على التنبؤ واحتواء الخطر..
تميز عقبة بالشجاعة والقوة والبسالة والعبقرية العسكرية مما جعل الخليفة عمر بن الخطاب يوليه قيادة الجيوش بشكل استثنائي وقد كانت قاصرة على الصحابة..
بزغ نجم عقبة بن نافع وعلا شأنه فشارك في فتح مصر و في فتوحات المغرب العربي ففتح برقة و زويلة والنوبة والواحات وسرت وودان وجرمة وفزان وشارك في فتح سبيطلة..
تولى عقبة بن نافع قيادة حامية برقة في عهد عمر بن الخطاب واستمر على عهدى الخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ثم تولى إفريقية في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان فاستقر في القيروان (كلمة فارسية تعني محط الجند ومكان السلاح)وبنى مسجده الشهير هناك وكانت منطقة كثيرة الوحوش والسباع فدعا الله أن ينصرفوا عنها فارتحلوا قائلا : "أيتها الحشرات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فارحلوا عنا فإنا نازلون، فمن وجدناه بعدُ قتلناه " وحينما دعا الله وقد أصابه وجيشه العطش الشديد وهو في طريقه إلى مدينة خاوار فانبجس الماء من تحت أقدام فرسه ببركة دعائه وسمي ماء فرس ومن هذا اشتهر عنه أنه كان مستجاب الدعاء ..

لم يستتب الأمر لعقبة طويلا حيث عزله والي مصر وإفريقيا الجديد مسلمة بن مخلد الأنصاري وعين مكانه أحد مواليه من الأنصار ويدعى أبا المهاجر دينار على إفريقيا ولم يكن عزل عقبة عن تقصير منه ولكنها مكافأت سياسية منحها معاوية لكل من عاونوه في فتنته مع الإمام علي رضي الله عنه وبنوه وهي الفتنة التي اعتزلها عقبة ولم يبد فيها موقف سياسي أو عسكري واضح ..كره عقبة ذلك وقابل خطاب العزل شزرا فأحد الموالي وعبد الأنصار أتى ليحل محله فلم يطق أبو المهاجر هذا منه وأساء معاملته وقيده في الحديد وهنا أولى ملامح شخصية عقبة غير السياسية وعدم تعامله مع الآخر على أساس المساواة بين الناس بصرف النظر عن ماضيهم ولنا في المصطفى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى ففي الحديث المشهور في صحيح مسلم : "رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، قالَ: فَذَكَرَ أنَّهُ سَابَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قالَ: فأتَى الرَّجُلُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ عليه"..
ذهب عقبة مغاضبا إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان في دمشق معاتبا إياه على إساءة عزله بعد ما قدم من صنيع و على يد "عبد الأنصار" لكن صلة معاوية بمسلمة بن مخلد في زمن الفتنة منعته من اتخاذ أي إجراء لكنه وعد عقبة بأن يعيده مرة أخرى لاحقا لحكم إفريقيا وهو مالم يتحقق لوفاة معاوية ..
عبقرية القائد عقبة العسكرية لا تمنع من الاعتراف بتواضع إمكانياته السياسية في بعض المواقف وهو ما يدفعنا إلى الاعتراف أن أبا المهاجر دينار كان أفضل من الناحية السياسية من عقبة فعلى الرغم من انتصاره العسكري المدوي على البربر في معركة تلمسان
وظفره بأميرهم الأمازيغي كسيلة بن لمزم زعيم قبيلة أوربة والقبض عليه وكسر شوكته ومن ولاه من بقايا البيزنطيين الروم إلا أنه سعى لكسب ود كسيلة وعفا عنه وأطلق سراحه وأفهمه أن الإسلام لم يأت لاستعمار الشعوب المستضعفة ونهب ثرواتها بل أتى لعزتها والارتفاع بقدرها وضمها لراية التوحيد "فَخِيارُكُمْ في الجاهليةِ خِيارُكُمْ في الإسلامِ إذا فَقِهوا "كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم فدخل كسيلة في الإسلام وتعلم اللغة العربية وتبعه من البربر الكثير وبدأت علاقات من الود وحسن الجوار بين الطرفين وحتى وإن شكك البعض في حقيقة إسلام كسيلة ونواياه إلا أن الاستمرار في هذا السبيل كان كفيلا بتحقيق العديد من المكاسب منها كسر التحالف البربري البيزنطي والاستفادة من قوة البربر كداعم للإسلام أو على الأقل تحييدهم وتحجيم نفوذهم وقد تمكن أبو المهاجر بفضل هذه السياسة من فتح قرطاجنة وجزيرة شريك كما بنى مسجده سيدي غانم، نسبة لأحد الأولياء الصالحين في هذه المنطقة ..ما انتهجه أبو المهاجر في التعامل مع البربر يعتبر من قبيل تأليف القلوب وهي سياسة إسلامية ناجعة تؤتي ثمارها غالبا بأفضل مما يأتي بقوة السلاح واستفحال القتال وقد انتهجها المصطفى صلى الله عليه وسلم في التعامل مع صناديد قريش وقبائل العرب فقد روى الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله ﷺ يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إليّ"، ورواه مسلم والترمذي....
مع تولي يزيد بن معاوية أبر بوعد أبيه وعزل أبا المهاجر دينار خاصة أن مولاه مسلمة بن مخلد قد توفي في هذه الآونة وأعاد عقبة مرة أخرى لحكم إفريقيا وهنا يتجلى ملمح غير سياسي أيضا من ملامح عقبة إذ لم ينس ثأره القديم فقبض على أبي المهاجر وأساء إليه وكان أولى به العفو والصفح وطي صفحة الماضي وتغليب المصلحة السياسية ووجوب اجتماع الكلمة حول الهدف الأكبر وهو إرساء دعائم دولة الإسلام في إفريقيا كما أساء لحليفه كسيلة وقيل أنه كلما سار للفتح حملهما معه مكبلين مما أثار حفيظة قبائل البربر وعزمها على الانتقام هذا بحسب بعض الروايات فيما تذهب روايات أخرى أن كسيلة كان مطلق السراح لكن مهمل الجانب يسخره عقبة في أعمال تحط من قدره مثل الشواء لجنوده بحسب بعض الروايات إذ كان عقبة على منطق سيدنا عمر بن الخطاب من عدم الحاجة إلى تأليف القلوب بعدما تنامت قوة الإسلام وفرضت سطوتها وقد اشتدت قوة الإسلام في المغرب العربي وأن كسر شوكة الجبابرة مثل كسيلة أفضل فعلا وأمضى تأثيرا وهو ما جعله لا يبالي بنصائح أسيره أبي المهاجر بعدم استفزاز كسيلة والبربر أكثر من ذلك ..
كان من عادات عقبة أن يطمئن على سلامة جيشه وهي من صفات القائد الشجاع المسؤول ففي القتال يتقدمهم وفي العودة من الغزو يكون في مؤخرتهم وأن يعود جيشه على هيئة أفواج إلى القيروان ويبقى هو على الفوج الأخير فاستغل كسيلة ذلك ووجوده مع ثلاثمائة مقاتل فقط وهاجمه بحشود ضخمة من البربر والروم وبمعاونة الكاهنة ديهيا الوثنية أو اليهودية التي تولت الحشد ..تصدى عقبة ببسالة هو ومقاتلوه كما صمم الرجل النبيل أبو المهاجر أن يقاتل مع عقبة وأن يقاسمه مصيره ويلقى الاستشهاد معه في بلاد (تهوذة) من أرض الزاب واستشهد الجميع وأسر نفر قليل..عظم الله أجرهم جميعا قال تعالى في سورة الأحزاب : ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23))
وحتى تؤتي قصتنا ثمارها فماذا لو اجتمعت قوة عقبة العسكرية مع حكمة أبي المهاجر السياسية وسارا معا في حكم إفريقيا وعلى هذا سار من بعدهم ؟!! بالتأكيد كانت ستتغير حوادث التاريخ و نهايات كل الحقب التي كان فيها هذا ممكنا لكن روح الخلاف والتنافس تغلبت وعظمت فساد العدو وتمكن وغلب ..
وحسبنا أيضا في هذا الموضع أن نتحدث عن سجايا عقبة بن نافع ومنها إيمانه الشديد بعظمة الله وعظمة القرآن الكريم ودوره في تهذيب المقاتلين وأن يعلو على أي أمر آخر وأن الجهاد وطلب الشهادة هما السبيل لرضا الله ورحمته ولو وصل في إعلاء كلمة الله إلى أخر هذا العالم فاتحا..

يقول عقبة :
"أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه؛ بايعوا رسول الله ﷺ بيعة الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربةٍ، وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا؛ فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين"
ويقول أيضا : "إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله، ثم قال: "يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القران، فإن القران دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلٌّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقَ لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله، ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا، ثم قال: عليكم سلام الله، وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا … ثم قال: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك ".
وقال أيضا وقد أشرف في رحلة جهاده على المحيط الأطلنطي :" اللهم إني لم أخرج بطرا ولا أشرا وأنك تعلم أني أطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين.. وهو أن تعبد ولايشرك بك.. اللهم إن كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته إليها في سبيلك".
ما أعظم أن تكون رحلة المرء طمعا في رضوان الله وإن خالطها بعض الأخطاء البشرية في افتقاد روح العمل الجماعي الخلاق لكن يبقى الإيمان بالله والاجتهاد في طاعته هما العنوانين الأبرز في الرحلة ...

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه