أفواه وأرانب – 2022
فاتورة الغذاء في مصر لا تتوقف عن التصاعد بسبب الزيادة في عدد السكان، والآن تزيد أكثر بحكم زيادة أسعار المواد الغذائية عالميا.
لا حلول في المدى المنظور
في مكالمة هاتفية قبل بضع سنوات، تذمر صديقي المصري من الزحام الخانق في القاهرة. قال إن الحركة صارت مستحيلة في الكثير من المناطق والأحياء. التكدس البشري طفق من بين جدران المنازل وصار يملأ الشوارع بالناس. كل شيء صعب، والخدمات تئن. كان يلوم الحكومة معتبرًا أنها عاجزة عن إيجاد الحلول.
سألت صديقي: كم عدد أولادك؟ رد: سبعة. قلت له: ما شاء الله؛ أنت من تسبب في هذا الانفجار السكاني؛ المشكلة فيك أنت وليست في الحكومة.
لم يعجبه كلامي بالطبع. ولكني كنت حريصا على تشخيص الظاهرة بأبسط معطياتها. صديقي مثقف ومتعلم ومكافح بالمعنى الحقيقي للعمل اليومي المستمر بلا توقف كي يوفّر لأسرته الحدَّ الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة. ولكنه مع زوجته وأولاده، يصبحون تسعة أفراد. وحسب ما فهمت فإن أُسرا بعدد أولاد يزيد عن خمسة هي شيء ليس استثنائيا في مصر. هذه أفواه كثيرة لتُطعم وأجساد كثيرة لتُكْسَى وعقول كثيرة لتَتَعلّم ووظائف كثيرة لتُمْتَهن. لا نريد أن ندخل في تفاصيل حجم الخدمات التي ينبغي توفيرها لأسر بهذا الحجم، من كمية مياه الشرب والاغتسال. يكفي التفكير في عدد المرات التي يسحب فيها حبل خزّان الماء في حمام البيت وكمية مياه المجاري التي تتجمع في الأحياء المزدحمة وأين يتم تصريفها.
لو كانت مصر مثل الصين أو الهند تأكل مما تزرع، لكان الأمر مفهوما. لكن هذه أفواه تأكل مما يتم استيراده من القمح والأرز والزيت. فاتورة الغذاء في مصر لا تتوقف عن التصاعد بسبب الزيادة في عدد السكان، والآن تزيد أكثر بحكم زيادة أسعار المواد الغذائية عالميا، أحيانا بسبب حرب أوكرانيا وفي أخرى بسبب الجفاف وفي ثالثة بسبب تضخم فواتير النقل مع صعود أسعار الطاقة. لا دلتا مصر ولا مشروع توشكى ولا مزارع الري بالتنقيط في شمال سيناء قادرة على إطعام كل هذه الأعداد، وستبقى مصر رهينة توريد القمح والأرز والزيت من أوكرانيا وروسيا وكندا وأستراليا وفرنسا. في المدى المنظور لا توجد حلول، ولا يمكن تخيل أن تتعامل الحكومة المصرية مع هذا الوضع دون أن تضع في الاعتبار أن لديها حالة طوارئ دائمة تستوجب توفير ما يسد رمق كل هذه الملايين.
ينبغي القول إن المهاجرين المصريين أشبه بالفدائيين ممن يفنون أعمارهم في العمل في الخليج وأوروبا، لكي يطعموا أعدادا متزايدة من الأفواه في مصر من عائلاتهم وأقاربهم. لكنْ، ها هو الحال يضيق في كل العالم، ولا أحد يتوقع أن يجد هؤلاء المهاجرون فرصا أكثر لتوسيع أرزاقهم ودعم أسرهم بالمزيد من الحوالات المالية، لسد الفجوة الناتجة عن فارق الأسعار، دع عنك إطعام أعداد أكبر من أفراد الأسر المتضخمة.
في فيلم المخرج هنري بركات "أفواه وأرانب" تحذيرات منذ السبعينات من خطورة الأمر. في الفيلم قدمت المبدعة الراحلة رجاء حسين دور الأم التي تعيش يوميّا في حالة طوارئ هستيرية لأنها مسؤولة مع زوج ضعيف الحال عن إطعام تسعة أولاد. يومها كان عدد سكان مصر حوالي 40 مليونا. من الواضح أن أحدا لم يتحدث إلى بنات وحفيدات "جمالات" الشخصية التي تؤديها رجاء حسين في الفيلم. “أفواه وأرانب -2022” حالة ذات بعد درامي أشدّ وطأة.
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن