أطفالنا والحرمان
علي جعفر العلاق
وأنا أقف على رصيف المحطة، في ذلك الصباح الممطر البعيد، بدا كل شيء جديدا عليّ تماما: محطة “بادنكتون” للسكك الحديد، في لندن، والقطار الذاهب منها إلى مدينة أكستر، والمطر النازل بغزارة. ومن نوافذ القطار المسرعة، كنت أرقب واحدا من أجمل تجليات الريف الإنكليزي المدهش.
وفي يومي الأول في هذه المدينة الموزعة على التلال والمنحدرات، كنت منفعلا بمشهد الصباح إلى حد بعيد. صباح يجيء طريا متموجا من وراء الوديان المجاورة حاملا معه إليّ خليطا من الأحلام والرغبات والتوجسات الخفيفة.
أمضيت في مدرسة اللغة ثلاثة أو أربعة أشهر، لم أعد أتذكر ذلك تماما. غير أن ما لا يغيب عن البال أنني كنت هناك في بداية نيسان، ذلك الشهر الذي كسوناه، عبر ثقافتنا العربية، جمالا لا يضاهى، بينما كان أقسى الشهور، في الثقافة الإنكليزية. وكان يخرج أزهار الليلك من الأرض الموات، مثلما يقول اليوت، ويمزج الذكرى بالرغبة.
كما أنني لن أنسى تلك العائلة الطيبة الصغيرة الهادئة، التي كانت أول عائلة ترسلني إليها المدرسة للإقامة معها. كانت عائلة إنكليزية بامتياز. زوجان وحيدان، مع أنهما كانا لا يزالان شابين تقريبا. وكان كل منهما يمارس عملا يجعل تماسه مع الناس يوميا وواسعا: ممرضة في أحد مستشفيات المدينة وموزع بريد. كانا ودودين جدا. ولم يكن يعيش معهما غير كلبين كبيرين كأنهما، لفرط حيويتهما، ذئبان رشيقان. وكانا يعاملان هذين الكلبين وكأنهما ولداهما اللذان لم يرزقا بهما بعد، أوحلمهما الذي لن يتحقق ذات يوم.
وكثيرا ما كان الزوجان يخرجان بهما إلى فعاليات متنوعة، كمسابقات جمال الأجسام، أو التمشي في متنزهات المدينة، أو ضواحيها التي تمتدّ، حد الذوبان، في أحضان الريف. وكثيرا ما كانا يلحان عليّ لأرافقهما، في إجازة نهاية الأسبوع، إلى إحدى المدن الساحلية المنتشرة في مقاطعة ديفون، مثل “أكسموث”، و”توركي”، و”سدموث”.
وخرجنا سوية ذات يوم إلى إحدى مدن الساحل. كان الطريق إلى المدينة ساحرا، وكان البحر، بامتداده المشمس وغيومه البيضاء الدافئة، يمنحني إحساسا لا ينسى بالاسترخاء والبهجة. وكان في تأمل الناس المستغرقين في مباهجهم، ما يبعث البشاشة والحيوية في النفس.
كانت السيدة الإنكليزية الأنيقة تفيض حنوّا على الكلبين الضخمين، وتعاملهما بلطف جم، وأمومة فائقة. وخلال الطريق الغارق في المراعي الخضراء الكثيفة، كانت تسأل زوجها أن يوقف السيارة على جانب الطريق حتى يقضي أحد الكلبين، أوكلاهما، حاجتهما التي تكررت خلال الرحلة أكثر من مرة. وكان الكلبان يستمتعان بإطالة وقفتهما وكأنهما منتشيان بذلك الحضور الباهر للطبيعة، أما الزوجان فكانا يتأملانهما بصبر أبوين حنونين. وذات صباح شديد البرودة، نزلت من غرفتي في الطابق الثاني، متجها إلى غرفة المعيشة. كان أحد الكلبين لا يزال ممددا إلى جانب تلك السيدة الدافئة باسترخاء ومهابة، ولا تزال عليه غشاوة ذابلة من النعاس، بينما لقيني زميله، على باب الغرفة، وهو يهم بالخروج بعد أن تناول فطوره كما يبدو. وحين جلست على الكرسي كان لا يزال دافئا، رغم الثلج الذي كان يتساقط، أبيض وخفيفا، وراء النافذة.
يا لها من جلسة عائلية حانية، ويا له من دلال لا يليق، ربما، إلاّ بطفل مولود لأبوين ذاقا مرارة الحرمان طويلا. هكذا قلت في داخلي تلك اللحظة، وأقولها اليوم بحرقة أشد، بينما شريط يبعث على الألم يمر في أعماق النفس. قد لا يجد بعض أطفالنا اليوم، بسبب ظروفهم الظالمة، جزءا مما تحمله تلك السيدة الإنكليزية من أمومة فياضة. مجتمعات لا تملك ما نملك من ثروات، لكنها تغدق كل هذا الحنان حتى على الكلاب، بينما يتعذب أطفالنا، كل يوم، في مجتمعات لا تجود عليهم، رغم ثرائها، إلاّ باليتم والدمع والحرمان الوفير.
سراب/12