تلفزيون وطناجر و"طق حنك"
البرامج التلفزيونية تبدأ صباحا متشابهة كأغلب الطبخات التونسية التي تبدأ بقلي البصل.
برامج خالية من بهارات الترفيه والتوعية
تبدأ البرامج التلفزيونية صباحا متشابهة كأغلب الطبخات التونسية التي تبدأ بقلي البصل. تنتصب المواقد لإعداد برامج للكبار والصغار بولائم من كرم المستشهرين (رجاء لا تقرأوها مستكرشين، فأنا لا أقصد ذلك)، وقد فاتهم أن يقدموا حصص طبخ تراعي الفقراء بمهارة وسرعة أعزب في الخمسين وتدبير أرملة لها أطفال وليس لها دخل ثابت.
أغلق قوس برامج الطبخ قبل قدوم شهر رمضان، فعزاؤنا أنها لا تضيّع وقت ربات البيوت أو تلهيهن عن مشاغلهن، أما اللواتي انتهين من شؤونهن المنزلية فيترشفن القهوة مع برامج الأطفال، ففيها ألوان وحكايا ورقصات.
في الظهيرة تبدأ فترة تسخين وجبات قديمة من المسلسلات وبرامج خالية من بهارات الترفيه والتوعية، وبلا أيّ مقدار من الإفادة سوى تقديم بعض الأسماء على أنها نجوم فن، بدليل أنهم يرسمون على سواعدهم وشم مفتاح صول، أو تقديم مؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي لا يضيئون سوى على أنفسهم.
وليمة “البوز” ونسب المشاهدة التي تطبخ في برامج المنوّعات يشرف عليها منشطون يضعون أنفسهم بين ظفرين لأنهم يختصون في “طق الحنك” والاستفزاز بالأسئلة المحرجة عن خصوصيات، وحتى فضائح ضيوف يحضرون بحماسة ساذجة اعتادوا عليها في جلساتهم بالمقاهي.
يكفي أن تلقي نظرة على أسماء البرامج حتى تفهم السعرات الثقافية والرسائل التي يمكن أن تريح الرأس على الوسادة أو تدفعك لإشعال سجائر خانقة، ولك أن تختار بماذا تختنق.
ومن الأطباق التي يصنفونها دسمة، لكن في حقيقتها ثقيلة، على الاستيعاب رغم مواكبتها للأحداث بتحليل وحوارات يشرف عليها مجموعة لا تتغير وجوهها وهو يسمون أنفسهم الـ”الكرونيكورات”، وأنا أطلق على مفردهم “كرنوك” وهو اسم بلا معنى لهاته المجموعة التي تفهم في السياسة والجيوبوليتيك وعلم الاجتماع والتاريخ والإستراتيجيات الأمنية والعسكرية وأحيانا تدلي بدلوها في علم الفضاء والفيزياء وتكنولوجيا الذكاء.
هذه الوجبات الحوارية تعطيك ما لا تنتظر، بل لا تعطيك غير الضوضاء، فالكل يتكلم مع الكل، ولا أحد يسمع، يحاصرون ضيفهم (عادة ما يستدعون ضيفا بمفرده بينهم) ليجيب على كومة أسئلة في وقت لا يكفيه للتنفس ولا لشرح مسائل حارقة من قبيل: صائمون في الفضاءات التجارية، وموقف النقابات من الحب، أو دفاع شيخ يدّعي الفقه عن فوائد لبس الجينز الضيق ومحاسنه في الزواج بثانية وثالثة ورابعة.
حان الوقت لنغلق كل البرامج، فحوانيت بيع الأواني المنزلية لها نصيب من المساحة التلفزيونية، طنجرة تجانب خلاطة فطقم سكاكين أو صحون تشرف عليها مروّجات في كامل أناقتهن مرسومة وجوههن بالأقلام لا يشبهن الدلال في الأسواق الشعبية.
الواحدة منهن تستفيض في تعداد محاسن مقلاة نحاسية لا تحرق الأكل ولا يلتصق بقعرها عار الأعلام.
لطيف جابالله
صحافي تونسي