اشتريت بلادي!

بقلم يمينة حمدي كانون2/يناير 27, 2023 54

اشتريت بلادي!

الحنين إلى الوطن ظاهرة شائعة بالنسبة إلى معظم المهاجرين، وقد تتكرر على مدار حياتهم، ويمكن لذلك أن ينعش ذكريات مختلفة بطريقة إما إيجابية أو سلبية.

قطعة نحاسية تعني الكثير

بينما كنت أتجول ذات يوم في الطريق الرئيسي لضاحية ويتون اللندنية الغاصة بالحانات والمطاعم ومحلات بيع الأجهزة العتيقة، لمحت عيناي صينية نحاسية منقوشا عليها خريطة تونس معلقة في واجهة أحد تلك المتاجر الخيرية، انتابني حينها مزيج من الحيرة ومشاعر الفرحة والحزن. وكأن تونس من شمالها إلى جنوبها اختصرت في تلك القطعة النحاسية.

الحنين إلى الوطن ظاهرة شائعة بالنسبة إلى معظم المهاجرين، وقد تتكرر على مدار حياتهم، ويمكن لذلك أن ينعش ذكريات مختلفة بطريقة إما إيجابية أو سلبية.

لكن الأمر بالنسبة إلي تجاوز مجرد الشعور بالحنين إلى بلدي وما يترتب عليه من مشاعر مختلطة. كما أن وجود السلع التونسية في بريطانيا أصبح من الأشياء الشائعة في الأسواق، وهذا ما قد يجعلها شيئا اعتياديا بالنسبة إلى معظم التونسيين.

الأكثر إيلاما، هو أن تلك القطعة النحاسية تحمل معالم بلادي التي لا تقدر بثمن، ومع ذلك فهي معروضة للبيع بثمن بخس، في مجتمع ربما لا يقدر قيمتها المعنوية، بقدر ما سينظر إلى سعرها المادي، وقد لا تعنيه رموزها الثقافية والشعبية من الأصل.

دخلت المحل الذي يبيع القطع العتيقة واللوحات، وبدت لي تلك القطعة قديمة ومغطاة بالبقع وبصمات الأصابع، إلا أن الخريطة المرسومة عليها أثارت فيّ مشاعر متقدة، وكان عقلي الباطن يحفزني على اقتنائها، بدا الأمر كما لو أنني “أشتري بلادي”، وكنت مستعدة لدفع كل ما أملك من مال في تلك اللحظة، لكن ثمنها أصابني بالدهشة، فربما لو كنت اشتريت تلك القطعة النحاسية القديمة من تونس لكان سعرها أكثر بكثير مما دفعته في لندن.

من السهولة بمكان توقع أن أحد السياح البريطانيين اقتناها أثناء سفره إلى تونس أو أهديت له، وهو احتمال آخر مرجح أيضا. لكن وجود تلك القطعة عنى لي أكثر بكثير من كل العيون البريطانية التي مرت عليها بإهمال ولامبالاة.

تجربة مثل هذه لا تلخص الحقيقة كاملة لتشكيلة واسعة من العواطف المعقدة المتعلقة بالوضع النفسي للمهاجرين من الثقافات المختلفة، فعندما  لا يوجد ما يكبح شعورهم بالغربة كالعمل والعلاقات الاجتماعية والأصدقاء، فإنهم قد يتجهون نحو المسارات المتوقعة للاغتراب، ولكن بـ”إيقاع متسارع نحو الماضي”، والنتيجة قد لا تكون جيدة، لكن من الممكن أن تكون أيضا إيجابية، إذا استطاعوا التكيف مع التحديات التي تلقيها حياة الغربة في طريقهم.

أدرك تماما أن الجغرافيا لم تعد حاجزا بين المهاجرين وبلدانهم، فقد اختصرت التكنولوجيا المسافات. لكن الإحساس الداخلي بالوطن هناك خلف البحر المتوسط، يمكن أن تختصره تلك القطعة عن تونس وعلى بساطتها التي اقتنيتها بسعادة غامرة. فهل وصل بنا الحنين إلى درجة يمكن لقطعة نحاسية لامعة أن تجسده بتلك البساطة والمشاعر المتقدة؟ ذلك ما لخصه الروائي البريطاني رولد دال في مقولته الشهيرة “الحنين إلى الوطن يشبه دوار البحر. أنت لا تعرف مدى فظاعة الأمر حتى تحصل عليه، وعندما تفعل ذلك، فإنه يضربك مباشرة في الجزء العلوي من المعدة وتريد أن تموت”.

يمينة حمدي

صحافية تونسية مقيمة في لندن

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه