من يدلني على مهنة هي بمأمن من روبوتات الدردشة
الخوف ليس في أن يقوم روبوت الدردشة بكتابة مقال ينشر في صحيفة بل الخوف أن ينسى العالم شيئا اسمه صحيفة ورقية كما نسي الرُقم الطينية وورق البردي.
نجاح استثنائي يحققه الذكاء الاصطناعي
لم يمض على إطلاق منصة "شات جي.بي.تي – 3"، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في كتابة نصوص يصعب التمييز بينها وبين نصوص يكتبها بشر عاديون، سوى أسابيع قليلة حتى سارعت مايكروسوفت للإعلان عن عزمها استثمار 10 مليارات دولار في الشركة المطورة للمنصة، ووعدت بإضافة التقنية إلى خدمة الحوسبة السحابية، في خطوة يمكن أن تغير مستقبل النصوص المكتوبة على الإنترنت.
بالطبع مبلغ مثل هذا تراهن به شركة مايكروسوفت على ابتكار لم يتجاوز بعد شهره الثاني، هو خطوة يجب ألا تؤخذ باستخفاف. وهذا ما بينه إقبال الملايين على استخدام المنصة فور الإعلان عنها، وأكده بحث جديد نشرته جامعة بنسلفانيا، بيّن أن روبوت الدردشة المعني بالخبر كان قادرا على اجتياز الاختبار النهائي لبرنامج ماجستير في إدارة الأعمال بالكلية.
قدرات مثل هذه لا بد أن تثير مخاوف المعلمين والعاملين في المجال الإبداعي، الذين بدأوا في التساؤل: هل حان الوقت لنوضع جانبا؟
يبدو أن الوضع غير مطمئن. البروفيسور كريستيان تيرفيش الذي أشرف على البحث قال إن الروبوت سجل درجة جيد (B) في الامتحان، وأظهر قدرة وصفها بالرائعة على "أتمتة مهارات العاملين في مجال المعرفة ذوي الأجور العالية بشكل عام، وعلى وجه التحديد العاملين في مجال المعرفة في الوظائف التي يشغلها خريجو ماجستير إدارة الأعمال، بما في ذلك المحللون والمديرون والاستشاريون".
بيورن أولفايوس: هل يتفوق روبوت الدردشة على البشر في تأليف الموسيقى بمرور الوقت؟ بيورن أولفايوس: هل يتفوق روبوت الدردشة على البشر في تأليف الموسيقى بمرور الوقت؟
وفي دراسة أخرى أجرتها كلية الحقوق بجامعة مينيسوتا، اجتاز روبوت الدردشة اختبارا يخوضه الطلاب للتخرج وحصل على درجة مقبول (C+)، وقال الأستاذ جوناثان تشوي إن "الروبوت أظهر اتقانا للقواعد القانونية الأساسية وقدرة قوية على التنظيم والكتابة".
كيف حقق الذكاء الاصطناعي هذا النجاح؟
ما بدأ خيالا علميا أصبح اليوم حقيقة بسيطة، كل ما تفعله الروبوتات هو أن تتعلم ذاتيا وتبحث وتنقب في المعلومات وتربط بينها، ولكن بسرعة خارقة تفوق سرعة البشر وقدراتهم.
الخبر ذكرني بحديث مع صديق صحافي، قبل 35 عاما أو أكثر، شبه عمل الصحافي بعمل النجار؛ فكما يستخدم النجار قطع الخشب، يقطعها ويجمعها ويقوم بتلميعها، ليقدم لنا قطعة فنية من الأثاث، يجمع الصحافي المعلومات ويعيد صياغتها وتركيبها.
حينها لم يكن محرك البحث غوغل، الذي بدأ كمشروع بحثي من قبل لاري بيج وسيرجي برين الطالبين في جامعة ستانفورد، قد خرج للوجود. الوسيلة الوحيدة للحصول على المعلومة كانت اللقاءات المباشرة، ومكتبة المنزل، أو أرشيف الصحيفة والمؤسسة الإعلامية.
من عاصر تلك الفترة يعلم حجم الجهد الذي يبذله الصحافي في التنقيب عن المعلومة. اليوم يكفي أن نسأل “سيري” وهي تجيب بسرعة البرق.
بالطبع لم يكن الصديق الذي قارن بين العمل الصحافي والنجارة، ينقص من قيمة العمل الصحافي، كل ما أراده هو تسليط الضوء على أهمية المعلومات (الخشب)، بدونها لا يمكن أن يقدم الصحافي مقالا يستحق القراءة.
بعد ثلاثين عاما يأتي العاملون على تطوير الذكاء الصناعي ليثبتوا صحة ما ذهبوا إليه في أبحاثهم، وليهددوا مستقبل العاملين في إعداد المادة الصحافية. هذا إن لم نسارع ونقول إن الذكاء الصناعي قد يهدد مستقبلا كتاب الرواية والمسرحية والشعر والسيناريو، بل وكما أثبت بحث جامعة بنسلفانيا، يهدد الوظائف التي يشغلها المحللون والمديرون والاستشاريون.
إذا كانت الكتابة حرفة مثل كل الحرف، وهي كذلك، لن يحميها شيء من زحف الذكاء الاصطناعي، الذي طال حتى الآن مهنا كثيرة.
في الحقيقة هناك تشابه كبير بين الحالتين، فكل ما تعمله تطبيقات الذكاء هو البحث عن المعلومات بسرعة مذهلة وإعادة تجميعها وتقديمها قطعة أدبية مميزة.
حتى اليوم كنا نظن أن العمل الإبداعي، ومن ضمنه مهنة الصحافة، بمنأى عن الخطر، وأن الأتمتة ستقتصر على المهن التي تحتاج إلى جهد عضلي متكرر.
إلى أن أتى روبوت الدردشة وقلب كل المفاهيم الراسخة في أذهاننا حتى هذه اللحظة، وأثبت أن المهن جميعها مهددة بالخطر.
إن كان هذا لا يكفي لإقناعكم، دعونا نكرر ما قاله نجم فريق آبا الموسيقي بيورن أولفايوس خلال ظهوره في مؤتمر الابتكار "دي.إل.دي" في ميونخ، متسائلا "هل سيكون الذكاء الاصطناعي قادرا على كتابة موسيقى أفضل من العديد من البشر بمرور الوقت؟".
إذا كانت الكتابة حرفة مثل كل الحرف، وهي كذلك، لن يحميها شيء من زحف الذكاء الاصطناعي، الذي طال حتى الآن مهنا كثيرة
ويجيب بيورن على السؤال الذي طرحه قائلا "سيحدث.. أخشى أن يحدث ذلك".
الخوف ليس في أن يقوم الذكاء الاصطناعي بكتابة مقطوعة موسيقية، أو مقال ينشر في صحيفة أو يبث كتقرير صوتي وبصري. الأمر، بالتأكيد، لن يقف عند هذا الحد. قريبا سينسى العالم شيئا اسمه الصحيفة الورقية، كما نسي الألواح الطينية وورق البردي. وسينسى التلفزيون أيضا.
الحديث هنا ليس على المستقبل البعيد، نحن نخطو في هذا الاتجاه بثبات وخطوات متسارعة.
علي مقربة من مسكني كشك صغير لبائع صحف ومجلات، أعبره في طريقي يوميا أكثر من مرّة. أحيانا أشتري منه بضعة سجائر. لم يحدث أن امتدت يدي إلى صحيفة لأشتريها، ولم يحدث خلال السنوات الأخيرة أن رأيت آخرين يشترون من عنده أي صحيفة.
سألته: كم صحيفة تبيع يوميا؟
نظر إليّ باستغراب، ودون تردد قال: ما أبيعه يوميا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأحيانا لا أبيع أي صحيفة.
وكأنه قرأ ما يدور في ذهني. تابع يقول: إنها (الصحف) مجرد مبرر وغطاء لبيع السجائر والماء.
هل حان الوقت ليفكر العاملون في الصحافة بمستقبل مهنتهم، ويشرعون في البحث عن مصدر آخر يعيشون منه؟
بصراحة، أعتقد ذلك. ولكن هل هناك من يدلني على مهنة هي بمأمن من الذكاء الاصطناعي؟
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس