في مفهوم الوطن.. ودون مزايدة

بقلم حكيم مرزوقي كانون2/يناير 31, 2023 85

في مفهوم الوطن.. ودون مزايدة

لا ورود أمستردام، ولا تماثيل مدريد، ولا معالم وحدائق موسكو وستوكهولم، قادرة على أن تُنسيني صيحة بائع متجول في حارة مدينتي.

هنا أجمل مكان أبصرته

أشهد أني زرت، شخصيا، ما يقارب الأربعين بلدا تنقص أو تزيد قليلا، ونادرا ما التقطت أو نشرت لي صورا مع أحد معالمها السياحية البارزة، خشية أن اُتهم بالسطحية والاستعراضية، وربما الحماقة وقصر الحيلة.

لا برج إيفيل أو بيغ بن، يعكس ثقافة باريس ولندن، ولا بوابة براندنبورغ ومسرح الكوليسيوم، يكشفان عن الهوية المعمارية لبرلين وروما. لم أتصور كسائح على ظهر جمل في أهرامات الجيزة، ولا كواعظ متدين في الحرم المكي، لكنني أحببت هذه الأمكنة جميعها بدافع المعرفة والاطلاع، وليس التوثيق والاستعراض.

كل هذه الأماكن التي حُظيت بزيارتها كان بفضل المسرح في ملتقياته ومهرجاناته، والتي لم أكن أحظى بها لولاه.. حتى وإن كنت حديث النعمة من أولئك الذين يلتقطون صور “السيلفي” أمام الموائد العامرة، ويتباهون بها أمام شعوبهم الفقيرة التي تعاني الأمرّين في سبيل لقمة العيش.

لم ألمح إلى حد الآن، أوروبيا أو أميركيا أو حتى خليجيا يتباهى بصوره أمام المآدب والولائم إلا على سبيل الاحتفال وتوثيق المناسبة، وليس لغرض التباهي و”المنفخة”، أما أبناء الشعوب التي تعاني الفاقة فحدث ولا حرج.. وكأنهم ينتقمون من السنوات العجاف. نساء متفرغات يقضين النهار وأناة النهار في التزين والتبرج من أجل الحصول على أعلى عدد ممكن من “اللايكات”، متمثلات مقولة “كوني جميلة وتحملي”.

شبان يلتقطون “السيلفي” مع السيارات الفخمة أو حتى مفاتيحها على الطاولات في المطاعم الفاخرة. متصابون ومتصابيات يرقصون ويرقصن أمام كاميرات الفيديو ليثبتوا ويثبتن قوة العضلات الموشكة على الترهل، وقدرة المال على جعل الحياة أكثر بهجة وانتعاشا.

عقد الخوف والخجل من الشيخوخة والفقر والترهل تملأ حياتنا فنعوضها بالمزيد من الكذب على أنفسنا والآخرين.

أشهد أني أقف اليوم مزهوا أمام صاحب عربة خضار من بلدي، جاثما أمام بائعة تين، ومرفوع الرأس أمام عامل تنظيف، ودون أن أخجل من طيبتهم أو حتى بعض مكرهم.. إنهم أبناء شعبي الطيب البسيط النقي كالمطر.

ألتقط صور “سيلفي” والشوارع المتسخة خلفي.. الدكاكين المتهالكة، الوجوه التي دبغتها الشمس حبا، والقاطرات المغمسة بالناس والعذابات اليومية. ليس في بلادي شيء يدعو للخجل غير الخجل والمتعالين على أبناء جلدتهم من هذا الشعب المعفر بالطيبة والغبار.

لا ورود أمستردام، ولا تماثيل مدريد، ولا معالم وحدائق موسكو وستوكهولم، قادرة على أن تُنسيني صيحة بائع متجول في حارة مدينتي. لا أطباق السوشي الياباني، ولا نكهات الكاري الهندي، ولا حتى مذاقات الويسكي والكونياك والفودكا، قادرة على اللعب برأسي كما تفعل نكهات بلدي.

ليس الأمر تعصبا مرضيا لرائحة هذه الأرض، وإنما هو حب استبد بي، تماما كما قال النسر العجوز لمليكه سليمان حين اقتاده إلى قمة موحشة ومقفرة، وقال له: هنا أجمل مكان أبصرته يا مولاي.

حكيم مرزوقي

كاتب تونسي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه