غياب التفاصيل يسيء للحكومة المصرية

بقلم محمد أبوالفضل شباط/فبراير 06, 2023 90

غياب التفاصيل يسيء للحكومة المصرية

السرية التي ازدادت رواجا في الآونة الأخيرة تكشف عن جانب دقيق وعميق في البيروقراطية المصرية والتي خسرت الحكومة بسببها الكثير من المعارك ويمكن أن تؤدي إلى خسارة النظام معارك أخرى بسيطة.

يصعب حصر المرات التي تسبب فيها غياب التفاصيل والمعلومات في مشاكل للحكومة المصرية في الداخل أو الخارج، وأدى تعاملها المبهم وغير العابئ بتوضيح مواقفها إلى تسببه في إحراجات بالغة للدولة وأجهزتها، وفهم عدم التجاوب مع الحاجة إلى تفسير تصورات وسياسات وإجراءات على أنه غياب للشفافية وفي أحيان أخرى عدم اكتراث بالرأي العام أو تعال عليه.

لم تعد هذه المسألة مقبولة سياسيا وإنسانيا وباتت مرفوضة من شريحة كبيرة من المواطنين، وبدأت ارتداداتها المتعددة تنطوي على إزعاج بالغ، وغالبية حلقات الإزعاج جاءت نتيجة نقص الخبرة في التعامل مع وسائل الإعلام والتصدي لقضايا مهمة بمعلومات شحيحة أو منقوصة أو مبتورة، ومع أنها قد تكون غير متعمدة إلا أن حصيلتها فادحة من زاوية أنها تسيء للحكومة المصرية والنظام برمته.

وتجاوز ذلك حدود الثقة وعدم الثقة المتعارف عليها، لأن تداعيات هذه الطريقة خطيرة على الخطاب الرسمي الذي لم يعد يغرد بمفرده عندما تكون روايته السياسية أو الاقتصادية بها أطراف خارجية تحرص على تقديم ما يتعلق بها من معلومات بدرجة عالية من المصداقية.

وكي لا يكون الكلام مرسلا، هناك العديد من الملفات التي أثيرت في مصر مؤخرا واختبرت فيها شفافية الحكومة ولم يجانبها الصواب في التعامل مع الكثير منها، فقبل أيام كشف وزير النقل والمواصلات الفريق كامل الوزير جانبا من عملية التوقيع على عقد لشراء عدد من القطارات من شركة تالجو الإسبانية، وذكر سعرا ماليا محددا لكل قطار، وهو ما لاحظ من اطلعوا على موقع الشركة أنه أقل مما هو معلن على صفحتها، وظهر أكبر من صفقات أخرى وقعتها الشركة في التوقيت ذاته تقريبا مع كل من ألمانيا وإسبانيا.

 دروس السنوات الماضية تؤكد أن التقاعس عن المكاشفة في بعض القضايا التي تشغل الرأي العام يكبد الحكومة خسائر أو يمنعها من تحقيق مكاسب مضمونة

اتسع نطاق الحديث حول الصفقة وروافدها المالية، وتمسك كامل الوزير بموقفه، ولم يقم هو أو المتحدث باسم وزارته بالاشتباك الإيجابي مع ما تردد أمام الرأي العام عبر منصات التواصل وفي محصلته يشير إلى وجود تصغير في الأرقام المصرية لا يصب في صالح الحكومة، ويظهرها وكأنها مبذرة ولا تعبأ بأموال الشعب الذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة.

في حين أن الحقيقة لا تدينها، فما يدينها أن وزارة النقل تعاطت مع الصفقة بالطريقة التقليدية الشعبوية التي تقول دائما كله تمام ونحن الرابحون دائما، وتجاهلت شرح الفرق في السعر بين الصفقة التي عقدتها مصر وتلك التي عقدتها الشركة الإسبانية مع دول أخرى.

وزاد أن نسب الوزير إلى الشركة قيامها بتقديم قطار إضافي للقاهرة كهدية للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بدون زيادة أو توضيح الأسباب، ما ضاعف من علامات الاستفهام، وأراد وزير النقل من حيث يدري أو لا يدري الإيحاء بأن نفوذ السيسي امتد لهذه الشركة العالمية.

غاب عن كامل الوزير وضع كافة التفاصيل وهي الثغرة التي تنفذ منها معظم المشكلات التي تواجهها القاهرة في كثير من الإجراءات التي تتخذها الحكومة وتنقلب أحيانا عليها وبالا، فالتباين في الأرقام والأسعار يرجع إلى الاختلاف في مواصفات القطارات وعدد الركاب والعربات ومدد عقود سنوات الصيانة، وهكذا.

بمعنى أنه لن يعيب الوزارة والحكومة وكل مؤسسات الدولة أن تشير إلى تفاصيل الصفقة، بما يقطع الطريق على من وظفوها للتشكيك في واحدة من الاتفاقيات المهمة لتحسين مرفق السكك الحديد، الذي تسبب في وقوع الكثير من الضحايا لسوء أحوال قطاراته وجراراته وقضبانه وعدم تأهيل العاملين في المرفق الحيوي.

كما أن حكاية القطار الهدية أو المنحة للسيسي اعتزازا وتقديرا ووفاء شابتها مغالطة تتخطى عملية نقص التفاصيل، لأنها زادت عليها شكلا مفتعلا من النفاق السياسي أو المجاملة الفجة المضرة للدولة وتنال من سمعتها عند توقيع الصفقات، فالقطار الإضافي قدمته تالجو للقاهرة لتأخر الشركة في تسليم الدفعة الأولى من صفقة القطارات لمدة عامين بسبب وباء كورونا، وما أفضى إليه من معوقات في الشحن، ولتشجيع الحكومة المصرية على توقيع صفقة قطارات أخرى جميع عرباتها تتكون من أسرة وليس بنظام الكراسي المعروف، وهو ما حدث بالفعل.

يبدو نقص التفاصيل عيبا في الإدارة المصرية عموما، ولا يقتصر على وزير النقل، حيث يحمل الإبهام والغموض والشح المعلوماتي إثارة، ويمنح القائمين عليه فرصة للهروب إلى الأمام إذا وقعت مشكلة، ويبعدهم عن الأخطاء الناجمة عن الخوض في الشرح وتقديم بيانات كاملة قد يجد فيها البعض فرصة للنفاذ منها لاستهداف الحكومة والمسؤولين فيها وتوجيه انتقادات مؤلمة.

والأهم أنه يعبر عن نمط تفكير يحرص على تجنب الإفصاح، ويجد أصحابه فيه وسيلة لعدم ارتكاب أخطاء، فقد يرتكب حماقة سياسية أو يذيع تفاصيل لا يريد النظام الحاكم الإعلان عنها الآن، وبالتالي يمكن تبني هذا المنهج المسؤول من تجاوز عقبة المحاسبة والعقاب ويتحولان إلى ثواب، فضلا عن تعزيز الولاء لمن فوقه، باعتبار أن بأياديهم الأمر والنهي، وإذا أرادوا أفصحوا في التوقيت المناسب.

 غالبية حلقات الإزعاج جاءت نتيجة نقص الخبرة في التعامل مع وسائل الإعلام والتصدي لقضايا مهمة بمعلومات شحيحة أو منقوصة أو مبتورة

تكشف هذه الطريقة التي ازدادت رواجا في الآونة الأخيرة عن جانب دقيق وعميق في البيروقراطية المصرية العتيدة، والتي خسرت الحكومة بسببها الكثير من المعارك ويمكن أن تؤدي إلى خسارة النظام معارك أخرى بسيطة يستطيع كسبها بسهولة، لأن السرية يجب أن تقتصر على الملفات التي تستحق ذلك، فاستخدامها في صفقة قطارات في غير محله.

ثمة سلسلة طويلة أفضى فيها نقص التفاصيل إلى أزمات في الشارع المصري يتحمل عواقبها السياسية النظام نفسه، والذي يضطر الرئيس السيسي للتدخل فيها، وحتى هذه أخذت تشوبها محاذير لأنه أصبح يتحدث في كل كبيرة وصغيرة لإقناع شعبه أن خطواته لا تشوبها شائبة، الأمر الذي وجد فيه المسؤولون التنفيذيون راحة لهم، ودفعهم إلى مزيد من الغموض غير البناء.

يقلل هذا المنهج من أي خطوات إيجابية تقوم بها الحكومة، ويفقدها ما تبقى لها من رصيد ثقة لدى المواطنين، ولو راجعت بعض التحركات التي قامت بها أو الإجراءات التي تبنتها وتراجعت عنها تحت ضغوط شعبية، حيث ظهرت فيها المعلومات شبه معدومة أو غامضة ومرتبكة، لاكتشفت أنها جنت على نفسها ولم يجن أحد عليها، وكان بإمكانها تمرير الكثير من السياسات بشكل أسهل لو حرصت على تقديم التفاصيل المطلوبة في توقيتاتها، وليس كما هو الحال في صفقة تالجو التي تركت نيرانها تشتعل في ثوبها، وعندما تشرع في إطفائها ربما تكون فقدت القدرة على ذلك.

تؤكد دروس السنوات الماضية أن التقاعس عن المكاشفة في بعض القضايا التي تشغل الرأي العام يكبد الحكومة خسائر أو يمنعها من تحقيق مكاسب مضمونة، لأن عدم توفير التفاصيل المطلوبة في ملفات مهمة يفتح الباب لتخمينات وتكهنات غير دقيقة، يحتاج تصويبها جهدا مضاعفا، ونتيجته غير مضمونة أيضا.

محمد أبوالفضل

كاتب مصري

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه