ضد سياسة الريع.. أو لا تعطني السمك
سعيد ناشيد
على الأرجح، فإن ما تفعله معظم الجمعيات الدينية الخيرية في كافة المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، عندما تقوم بتوزيع المعونات على المعوزين والفقراء والمحتاجين، ولو موسميا أو بين الفينة والأخرى، قد يبدو كما لو أنه عمل أخلاقي محمود في الدنيا، ومأجور في الآخرة، فضلا عن كونه مطلوبا من وجهة نظر التضامن الإنساني.
بل يبقى الجهد مشكورا حتى ولو تمّت العطايا والهبات أمام كاميرا التصوير أو على رؤوس الأشهاد. ويظل هذا الانطباع واردا في كل الأحوال، بصرف النظر عن النتائج الحقيقية والانعكاسات الفعلية على مستوى تحسين حياة الناس وظروفهم المعيشية؛ ذلك أن العبرة وفق المزاج الثقافي السائد تتعلق بالمقاصد المرجوة أكثر ما تتعلق بالنتائج المتحققة.
أما عندما يهم الأمر النساء الأرامل على سبيل المصادفة أو من باب المزاج العاطفي الغالب، فقد تبدو المبادرة أكثر نبلا بنحو لا جدال فيه. أو على الأقل، هكذا يكون الانطباع الأول عندما ننظر إلى منظمات خيرية تتسابق إلى أعمال الخير والإحسان، وحولها تتحلق بعض الأيادي الممدودة والأفواه الجائعة دوما إلى من يرحمها. غير أن الانطباع الأول ليس سوى الرأي الذي يقوم قبل إعمال التفكير. لذلك، عادة ما تكون الانطباعات الأولى مجرد آراء خاطئة، أو آراء مخادعة ومضللة. هنا تكمن أهمية التمرين الأول للفلسفة. وهذا موضوع آخر.
الملاحظ بعد التفكير الهادئ، وهو أعز ما يُطلب في الحقل السياسي، أن أسلوب المساعدات الذي تنتهجه معظم الجمعيات الدينية في جل المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، لا يهدف إلى تمكين الفرد من الاستقلال وتحقيق الاكتفاء، والخروج من دائرة العوز والاتكال، باعتبار أن كل فرد هو “وجود لذاته” بالمعنى العميق للعبارة، وإنما خلاف ذلك نراه يكرس قيم الريع وثقافة التواكل وسلوك التذلل، بحيث يبقى الفرد طول عمره رهينا لجود “أهل الجود”، وكرم “أهل الكرم”، وأعطيات “أهل العطاء”، ومن ثمة يولد نسق ثقافي مغلق يمجد قيم التواكل والطاعة والكسل والخضوع والاتباع، على حساب قيم الإنتاج والحرية والعمل والإبداع. ما يعني أننا أمام خلل ثقافي كبير.
لذلك قد لا نحتاج إلى جهد كبير حتى ندرك بأن ثقافة الريع، والتي ما إن تطال المستويات الدينية حتى تطال المستويات السياسية أيضا، كانت ولا تزال تمثل عائقا، بل إعاقة ذهنية ووجدانية كبيرة، بنحو سينتهي إلى الفشل الذريع للمئات من المشاريع المدرة للدخل التي أنجزتها العشرات من الجمعيات التنموية في العقدين الماضيين، داخل معظم المجتمعات الإسلامية.
ولن يخفى عن الناظر إلى أحوال العراق اليوم كيف أن كثرة الشهداء في بلد خاض حروبا متتابعة منذ سنوات الثمانين إلى غاية اليوم، قد وفرت لمعظم الجمعيات الدينية، شيعية كانت أم سنية، مجالا خصبا لتجنيد الآلاف من المتسولين والمعطوبين والأرامل، وربطهم بشبكات الريع الديني، لقاء كسب ولائهم وولاء عيالهم بنحو نهائي لا رجعة فيه. هكذا نفهم كيف أمست ثقافة الريع في الحساب الأخير بمثابة السمة الغالبة على مجتمع كان إلى وقت قريب يقدس قيم العمل والمبادرة والإنتاج، والاعتماد على الذات.
في المقابل، حين ننظر إلى العالم المتقدم فإننا نلاحظ وجود العشرات من الجامعات الحديثة والمختبرات العلمية في أميركا وأوروبا، التي ساهم في بنائها محسنون بالمعنى الديني، مما يؤكد لنا بالملموس حجم التأخر الذي يطال حتى ثقافتنا الإحسانية نفسها، حيث لا ينظر المحسنون عندنا إلى الخير والإحسان إلا باعتبارهما بعيدين كل البعد عن مجالات المعرفة العلمية والفنون الجميلة والتنمية المستدامة.
بهذا المعنى، تكمن إحدى معضلاتنا في سياسة الخير بالذات، حيث أن فاعل الخير لا يرى نفسه ملزما بالمساعدة حين يتعلق الأمر بالمعرفة والإنتاج والصحة والفن وما إلى ذلك، من قبيل بناء المدارس، وإنشاء التعاونيات الإنتاجية، وتشييد المستوصفات الطبية والمسارح، لكنه يعتقد كل الاعتقاد بأنه ملزم بالمساعدة حين يتعلق الأمر بعمل له نتيجة فورية حتى وإن كانت محدودة أو شكلية أو عرضية: إطعام جائع، إفطار صائم، التبرع بسجاد لأحد المساجد، توزيع بعض الدريهمات المتفرقة على الأيادي الممدودة هنا وهناك في انتظار أن يرحم الله عباده رحمة بلا انقطاع، وهكذا دواليك مما لا يساهم قيد أنملة في إخراج المرء من دائرة الفقر والفاقة. ما يعني الوقوع في نسق ثقافي محكم الإغلاق، يعتبر الفقر والعوز قضاء لا راد له ولا شفاء منه. ثم لا مناص من مهدئات إحسانية تطعم بعض البطون الجائعة، وتكرس لديها في المقابل قيم التواكل والاتكال. فهل بمثل هذه القيم يمكننا أن نشق عباب التنمية البشرية والمستدامة؟
لكن، أليست سياسة الريع هي البيئة الثقافية المساعدة على التدين الأيديولوجي؟ في كل الأحوال، هناك قاعدة واضحة، إن أساس التنمية البشرية هو مبدأ بسيط يقول: لا تعطني السمك بل علمني أن أصطاد السمك؟ وهذا ما يؤكد مطارحتنا في الموضوع: لا تنمية بشرية دون ثورة ثقافية.
كاتب مغربي
سراب/12