"حيرت قلبي معاك"
ما كشفه المسلسل منذ حلقاته الأولى يبدو فظيعا لكن الجميع يتفق على أن ما خفي كان أعظم.
الانفصام الاجتماعي بلغ ذروته
“فلان لا يعجبه العجب، ولا حتى الصيام في رجب”.. مثل عامي يقال في أولئك الذين لا يقبلون بأيّ طرح أو مقترح، ولا تُرضيهم أيّ قسمة مهما كانت موضوعية وعادلة.
أما صيام رمضان فيزيد من الطين بلّة، وترى هؤلاء يقبلون به عن مضض، يكثرون من التذمر أو العصبية وافتعال الخناقات لأتفه الأسباب، وكأنهم قد فضلوا عليك بصيامهم.
يبدو ذلك واضحا وجليا في سلوك الموظفين بالدوائر الحكومية وأمزجة الباعة والزبائن في الأسواق، وكذلك في معاملة أفراد الأسرة الواحدة مع بعضهم بعضا على مائدة الإفطار قبيل الآذان، حتى ليوشك الواحد أن يستعجل قدوم شهر شوال، مع قدوم العيد، ويكاد يشكك: هل أن هذا الشهر فعلا شهر خير وبركة ومحبة وتسامح.
بلغ الاعوجاج حده في السلوك والتفكير، وخيرت شخصيا، “الخلوة” واعتزال الناس غصبا عنّي، وأصبحت لا أغادر بيتي إلا لمقهى الحي بعد الإفطار أي بعد أن ينال الجميع حاجتهم من الأكل والشرب والمرطبات، وينزوون لمشاهدة المسلسلات.
ومع ذلك، لم تنج هذه المسلسلات من شتائمهم التي تجاوزت مجرد النقد اللاذع، لكنهم يدمنون متابعتها بشغف والتفرج عليها بلهفة.. لا لشيء وإنما ليشتموا تلك الأعمال الدرامية في سهراتهم وصبيحة اليوم التالي، لعل ذلك يخفف من احتقانهم.
وفي إطار هذه الأجواء المحتقنة أصلا، لم ينتظر التونسيون بضعة أيام قليلة قبل أن يصبّوا جام غضبهم على مسلسل رمضاني حمل عنوان “الفلوجة”، ويطرح مشاكل جيل المراهقين في المدارس الثانوية، وعلاقتهم بالمحيط الأسري والاجتماعي، وكذلك الجهاز التدريسي داخل المؤسسة التربوية.
ما كشفه المسلسل منذ حلقاته الأولى يبدو فظيعا، لكن الجميع يتفق على أن ما خفي كان أعظم.. ومع ذلك يتعامى معظم الناس عن هذه الحقائق، يحمّلون صاحبة العمل وفريقها الفني، مسؤولية ذلك الواقع المرعب الذي لم تزد عليه شيئا، ويطالب بعضهم بإيقاف بث المسلسل وفتح تحقيق مع الجهات التي سمحت لهم بتصوير هذا العمل وإنتاجه.
الانفصام الاجتماعي بلغ ذروته هذه المرة، وصار أغلب الأفراد الذين تسألهم عن آرائهم في المسلسل يجيبونكم بقولهم: ما وقع بثه لا يختلف عن الواقع، لكن لا ينبغي بثه على التلفزيون. ثم يصمت قليلا ليقول لك: لننتظر ما ستؤول إليه الحلقات القادمة، رغم أني مع المطالبين بإيقاف بثه.
هؤلاء الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، يذكرونني بجاري العصبي الذي تأبط قطعة قماش جاءته هدية وقصد خياط الحارة ليفصل طقما، قال له: أريده طقما لا من النوع التقليدي الذي ولّت موضته، ولا من الحديث الذي لا يروق لبني جيلي.
وأردف يقول والخياط يستمع صامتا: لا أريد خصره مضحكا ولا أكمامه قصيرة فأبدو مضحكا كمهرج.. هات قطعة القماش.. أنا الغلطان الذي قصدتك.
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي