الكذب يملأ فراغات الحقائق
وجود الكذب إلى جانب الحقيقة يمكّن الناس من رؤية العالم من منظورين مختلفتين.
الكذب لا يحجب الحقائق
واجهت زميلتي في العمل موقفا محرجا حين سألتها إحدى صديقاتها عن رأيها في سروالها الجديد. ومع أن السروال لم يرق لها بلونه الفاقع وتصميمه المزخرف بشكل مبتذل، لكنها اضطرت إلى أن تقول إنه سروال جميل، حتى لا تحط من قيمة ذوق صديقتها وتجرح مشاعرها.
بعد لحظات من الزمن شعرت زميلتي بتأنيب الضمير، لأنها لم تكن صريحة مع صديقتها، وتخبرها برأيها الحقيقي، وفي النهاية قررت في لحظة مواجهة صادقة مع نفسها، أن تفصح عما بداخلها وتقول لها إن “سروالك قبيح ولا يليق بك”، وهذا الأمر جرح مشاعر صديقتها بالفعل وأشعرها بالحزن.
ميزة الأكاذيب، أنها لا تحجب فقط الحقائق المؤلمة، وتجنبنا المواقف الصعبة، بل ترفع المعنويات وتشعر الناس بالسعادة غير الحقيقية، بدءا من ردة فعلنا تجاه شخص مصاب بمرض عضال، حين نضطر إلى أن نقول له “إنك على ما يرام”، وصولا إلى مجاملة جيراننا الفضوليين أو أصدقائنا الحشريين، حتى نتجاوز عن سلوكياتهم السخيفة، رغم أننا نراهم في غاية السوء. هذا الأمر ينطوي على قدر من الحكمة والتعقّل، بمعنى أن نكبح ألسنتنا عن قول الحقيقة، التي لا تجد أشخاصا مستعدين لتقبلها، لنتجنب الأسوأ من الكذب.
الكذب في المواقف غير المتوقعة أو الصعبة، يساعد على الشعور بالهدوء ويحمي من التوتر، فالتوتر يرفع مستوى ضغط الدم، وقد يزيد من مخاطر الإصابة بمجموعة كاملة من الأمراض، في حين يمكن لبعض “الأكاذيب البيضاء” التخفيف من حدة هذه المخاطر، وهو ما يمكننا من الحفاظ بالتبعية على التناغم والانسجام في روابطنا الاجتماعية.
وعلى العكس من ذلك، يمكن أن تؤدي الحقيقة المؤلمة إلى تضخّم العديد من هذه العمليات الحيوية في الجسم، وتخلف مضاعفات جسدية ونفسية لا تنفع معها العقارات.
الأمر على أي حال، يتجاوز مجرد مواقف شخصية، ولو نظرنا مثلا إلى التراث الشعبي والثقافي لشعوب العالم، لأدركنا دور الكذب في ملأ فراغات الحقائق، واضطرار الناس إلى اختلاق القصص لتحصين أنفسهم مما يدور في فلك هذه الحقائق وما يتفرع عنها من مخاوف، ولكل قصة وهمية أكثر من وجهين متضاربين، مما خلق صورة مزيفة للحقيقة، وبالنسبة للمسائل السياسية والدينية والاجتماعية، تأتي الحقائق التي يمتلكها الناس في الغالب من رجال الدين أو الأعراف والتقاليد أو كتب التاريخ الملفقة، أكثر من أي مصدر آخر.
ويُظهر هذا الأمر شيئا في غاية الأهمية، يتعلق بالطريقة التي نقوم بها بتحديث معارفنا. وهو أن بعض الشخصيات السياسية أو الدينية تملك قوة سحرية في جعل الأشياء تبدو أكثر صحة بالنسبة لنا، حتى عندما يكون ما نعرفه يتناقض مع ما يقولونه.
وهكذا بدل أن ينزعج “دعاة الحقيقة” من احتفاء دول العالم بـ”كذبة أبريل”، عليهم أن يدركوا أن وجود الكذب إلى جانب الحقيقة يمكّن الناس من رؤية العالم من منظورين مختلفتين، الأمر هنا يتجاوز مجرد تعبير بسيط عن رأيك في “الكذب” أو في الزاوية التي تنظر بها أنت إلى الحقيقة. ولو لم يكن الكذب موجودا لتعرضت حياة الكثيرين للخطر في بلدان تجرم حرية العقيدة والتعبير عن الرأي.
عندما يتعلق الأمر برأيي الشخصي في الكذب، أجد إحدى مقولات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قد علقت في ذاكرتي “يحاول دعاة الحقيقة في كل حين أن يكافحوا الأوهام بين الناس، وما دروا أن الوهم ربما كان أنفع من الحقيقة أحيانا، فلو أن الإنسان عاش على الحقيقة وحدها لفني منذ زمان بعيد”.
يمينة حمدي
صحافية تونسية مقيمة في لندن