يوم أُعدم أبرياء بسبب خطأ قضائي !

 
 
يوم أُعدم أبرياء بسبب خطأ قضائي !
 
      محمد عبد المحسن
 
      
في مقال سابق تناولت الجدل الدائر حول عقوبة الإعدام، ودعوة جانب من الفقه الجنائي إلى إلغائها، وتمسك جانب مقابل بها ورفض إلغائها، والحجج التي ساقها كل جانب لتبرير موقفه، وانعكاس ذلك على مواقف التشريعات العقابية في العالم، التي ألغى بعضها هذه العقوبة وتمسك بها بعضها الآخر .
وكان من حجج دعاة إلغاء عقوبة الإعدام احتمال خطأ القضاء عند الحكم بها، وبالتالي إزهاق حياة متهمين تثبت براءتهم فيما بعد .
وفي تطبيقات القضاء العراقي ثمة قضية جرت المحاكمة فيها في الستينيات، وشهدت حالة خطأ قضائي ظل ذكرى محزنة في تاريخه ؛ وتتلخص وقائع القضية في أن مجموعة من الجناة ترصدوا باص مصلحة نقل الركاب الذي يعمل على الخط الذي يصل إلى منطقة التاجي ( ولعله الخط رقم ٣٥ إن لم تخنّي الذاكرة )، وحين كان الباص في رحلته الأخيرة في أحد الأيام عند انتصاف الليل صعدوا إليه عند توقّفه في محطة على الطريق تقع في منطقة خالية وقاموا بقتل السائق والجابي واستولوا على مبلغ أجور النقل الذي تجمّع في حوزة الجابي ثم لاذوا بالفرار ( كانت السرقات في الغالب آنذاك بسيطة المبالغ وليست  كسرقات لصوص اليوم المليونية )، وبعد الشروع في التحقيق حامت الشكوك حول مجموعة أشخاص جرى توقيفهم واستجوابهم وتعرضوا للتعذيب فاعترفوا مرغمين بارتكاب الجريمة وأحيلوا إلى محكمة الجنايات الكبرى ( كما كانت تسمى آنذاك ) لمحاكمتهم .
في هذه القضية توفرت عدة ظروف مشددة :
الأول كون المال المسروق من الأموال العامة .
الثاني إرتكاب السرقة ليلاً .
الثالث تعدد الجناة .
الرابع حمل الجناة أسلحة .
الخامس وقوع الجريمة في مكان بعيد عن المدينة والعمران .
السادس إقتران السرقة بالقتل .
ولذلك كانت عقوبة الإعدام بانتظار مرتكبيها ، لكن الدليل الذي ركنت إليه المحكمة ، وهو الإعتراف الذي يسميه كثيرون (سيد الأدلة) ، كان قد انتُزع بالإكراه أثناء التحقيق .
حكمت المحكمة عليهم بالإعدام ، وصُدّق الحكم وتم تنفيذ العقوبة .
وبعد مدة، خلال التحقيق في جريمة أخرى، اتضح أن مرتكبي هذه الجريمة التالية كانوا قد ارتكبوا جريمة سرقة الباص التي أعدم بسببها المتهمون السابقون الذين اتضح أنهم أبرياء منها !.
أثارت الواقعة أسفاً مريراً وحزناً كبيراً ، وأذكر أن أستاذنا القاضي المرحوم حسين محيي الدين عرضها في الثمانينيات واصفاً إياها بأنها نقطة سوداء في تاريخ القضاء العراقي .
عرضتُ هذه القضية لأطرح من خلالها سؤالاً أراه بالغ الأهمية هو : أن إعدام متهمين أبرياء فيها قد تم بسبب خطأ قضائي ، فهل يمكن إصلاحه بعد اكتشاف خطئه ؟!.
الإجابة معروفة وهي النفي . لكن لو كان الحكم بالسجن لكان بالإمكان أن يستعيد المتهمون حريتهم ويزال الخطأ .
الدروس المستفادة من هذا المثال متعددة :
الأول : أن العدالة تقتضي إعادة النظر في عقوبة الإعدام وقصرها على بعض الجرائم كالتجسس والإلتحاق بالعدو والجرائم الإرهابية .
الثاني : أهمية مراجعة المدة القصوى لعقوبة السجن في العراق ، فإذا كانت مدتها القصوى في حالة الحكم بالسجن المؤبد الآن عشرين سنة بموجب المادة (  ٨٧ ) من قانون العقوبات فإن بالإمكان الأخذ بعقوبة السجن مدى الحياة التي أخذت بها قوانين دول عديدة لتحل محل عقوبة الإعدام في الجرائم الخطيرة .
الثالث : وجوب النظر بحذر شديد إلى اعتراف المتهم والتحقّق التام من أنه لم يكن وليد الإكراه ، وإعادة النظر في نص المادة (٢١٨) من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تسمح بالأخذ بالإعتراف المنتزع بالإكراه بدعوى انعدام رابطة السببية بين الإكراه والإعتراف ، خاصة في ظل النظرة الحديثة إلى الإعتراف في فقه القانون الجنائي الحديث الذي صار يرفض اليوم وصف الإعتراف بأنه سيد الأدلة ويؤكد ضرورة إهدار الإعتراف وعدم الأخذ به كدليل بمجرد ثبوت الحصول عليه بالإكراه .
الرابع : ضرورة تشديد العقوبة على القائمين بالتحقيق وكل رجال القوات الأمنية عند ثبوت تورطهم بجرائم التعذيب الجسدي أو النفسي .
قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه