"قارش وارش" وأخواتها
اللهجات العربية العامية حمالة أوجه، فالعديد من المفردات تحمل أكثر من معنى وتأثيرها علينا يتوقف على أحكامنا وتفسيراتنا للمواقف.
"قارش وارش" تصلح لاستلهام أطباق ووصفات جديدة
باتت معرفتنا بأطباق الطعام المختلفة جغرافيا وثقافيا وذوقيا، أوسع من أي وقت مضى. وفي مقدور كل شخص الاستعانة بالتطبيقات الموجودة على الهواتف الذكية والمواقع الاجتماعية، وإعداد وصفة الطعام المحببة لديه، حتى تلك الوصفات التي قد طرأت عليها العديد من التغيرات من خلال انتقالها من فم هذا إلى أذن ذاك.
مؤخرا، خضت بحثا مطولا على مواقع التواصل الاجتماعي، علّني أجد وصفة الطبق العراقي المعروف باسم "قارش وارش"، الذي حدثني عنه زوجي متهكما، وطلب مني إعداده خلال شهر رمضان المبارك.
رغم أنني مولعة بفن الطبخ، إلا أنها المرة الأولى التي أسمع فيها تلك المفردات العراقية، فلم يسبق لي من قبل أن سمعتها في سياقات الحديث سواء مع زوجي أو أصدقائنا العراقيين المقيمين في بريطانيا، ما جعل معناها بالنسبة لي أقرب إلى الطبق الشهي والغريب في نفس الوقت، وسعيت للبحث عن المعلومات بشأن الوصفة الصحيحة لإعداده.
لو لم يتدخل أحد أقارب زوجي ويشرح لي المعنى الحقيقي لذلك المصطلح، لكنت ترجمت هذه العبارات إلى طبق فعلي وخلقت وصفة جديدة من الصفر، بمساعدة تطبيق بلانت جامر (Plant Jammer) الذي في مقدوره تولي إعداد وصفات طعام بناء على المكونات المتوفرة وباستخدام الذكاء الاصطناعي.
كنت حريصة بشدة على أن أبرز مهاراتي أمام زوجي في فن الطبخ، لكنّني عجزت عن إيجاد الوصفة الأصلية، وكل ما وجدته مجرد معلومات وشروحات لا تمتّ لعالم المطبخ والطعام بصلة.
لم أكن أدرك على الإطلاق أن عبارة "قارش وارش" ما هي إلا تعبير عامي عراقي يشبه إلى حد ما المقولة التونسية "يزي من الترهدين"، وكلاهما يصب في معنى واحد وهو "لا تحاول خداعي والتمويه عن الأمر"، ويتماشيان مع السياق المجتمعي والثقافي الخاص بهما.
رغم أن زوجي لم يطلب ذلك الطبق، إلا من باب الدعابة والمزاح، لكن وقع الكلمات وسجعها راقا لي، وأحببت العبارة، التي بدت كما لو أنها تحاكي نوعا من ابتكارات أمهر الطهاة في العراق.
على أيّ حال، معظمنا يدرك أن اللهجات العربية العامية حمّالة أوجه، فالعديد من المفردات تحمل أكثر من معنى، وتأثيرها علينا يتوقف على أحكامنا وتفسيراتنا للمواقف، ومعظمها تعد شكلا من أشكال ترجمة الواقع أو محاولة للتكيّف معه، كما أنها نشأت وتطورت بناء على البيئات الاجتماعية، وبذلك فهي مفردات عميقة في معانيها، تساعدنا على تبسيط التعقيدات التي قد تشوب حياتنا. لكنها من المؤكد لا تتوقف على ما نقوله، بل على كيف نقوله، ولهذا فالطريقة التي قال لي بها زوجي مصطلح "قارش وارش" جعلتني أصدق أنه بالفعل طبق عراقي قابل للطهي.
مصطلحات مثل "قارش وارش" و"يزي من الترهدين" تعد جزءا من ثقافة عربية أوسع نطاقا، غارقة في "الكذب والخداع"، وإن كان التونسيون قد استعاروا مصطلحهم من اللغة العربية الفصحى، حيث ورد في المعجم الوسيط عبارات "الرُّهْدُنّةُ" و"الرهدون" و"رهادن" و"الرهدون" وهو الكذاب، فالأرجح أن العراقيين اقتبسوا مصطلحهم من اللغة التركية ويعني التشويش والضوضاء، وتأتي هذه العبارات في سياقات التحذير من التلاعب والخداع كأن يقول أحدهم لغيره "لا تسوّي قارش وارش".
ليست هذه المصطلحات طارئة على أي حال أو جديدة، كما نعلم جميعا أن الكذب والخداع موجودان في كل مكان ومنذ الأزل، ولذلك لا مفر لنا من ترديد هذه المصطلحات بدلا من تسديد لكمات لمن يحاولون تضليلنا.
لكنني مازلت مصرة على أن "قارش وارش" تصلح لاستلهام أطباق ووصفات جديدة، لاسيما إذا أُعدّت من "وحش الطاوة" (الباذنجان) الثمرة السوداء الأحب إلى قلوب العراقيين الفقراء.
يمينة حمدي
صحافية تونسية مقيمة في لندن