فترينة قطع الكريستال للفضائيات العربية
حتى من قبل أن تتربع المنصات التدفقية على عالم البث التلفزيوني وتزيح القنوات التقليدية لم تتمكن الفضائيات العربية الناطقة بالإنجليزية من تحقيق أي اختراق مهم لدى المشاهد الغربي.
فشل مدوي
إذا تأكد الحديث عن سعي السعودية إلى إطلاق فضائية إخبارية كبرى باللغة الإنجليزية، فإن القناة المقترحة ستكون أشبه بقطعة كريستال جميلة في فترينة الإعلام السعودية، ولكنها مثل كل قطع الكريستال المخصصة للعرض، ستكون جميلة ولكن بلا فائدة عملية.
هذا لا يعني أن الفكرة قاصرة أو غير صحيحة. تواجه الدول العربية نقصا هائلا في التعامل الإعلامي مع الغرب. الغرب يكتب عنا في إعلامه ما يريد، بالصورة التي يريدها، وبأقلام غربية في العادة. ومن الصعب القول إن وجهة النظر العربية في القضايا الإقليمية أو الدولية تجد طريقها إلى المتلقي الغربي، أو الناطق بالإنجليزية. بل إن وجهة نظر الدول المعنية بمسألة أو بشأن خاصَّيْن بها، لا تجد في أغلب الأحيان طريقها إلى الإعلام الغربي.
الحاجة إلى الحضور الإعلامي العربي في الغرب أكثر من ضرورية. لكن الصيغة المقترحة -أي قناة فضائية كبرى ناطقة بالإنجليزية- هي القاصرة، ويعود ذلك إلى اعتبارات كثيرة.
إذا كان عالمنا العربي لا يزال يتفرج على الفضائيات الإخبارية بشكل متواصل، فإن هذا ليس حال العالم الناطق بالإنجليزية. لا تزال المحطات الإخبارية العالمية مثل سي أن أن وسكاي نيوز وبي بي سي ورلد نيوز مهمة، لكنها محطات للإطلالة وليست شاشات المشاهدة الدائمة مثلما كانت. نموذج القناة القائمة على الأخبار التي تبث 24 ساعة لا يزال حيا، لكنه نموذج بدور زمني متقطع، وبدور غير البث المباشر ويتم عبر ترويج مقاطع من فيديوهات إخبارية أو تحليلية توزع عبر المنصات الاجتماعية.
◙ لا نعرف بالضبط كم أنفقت قطر على مشروع الجزيرة الإنجليزية، بالتأكيد كان الإنفاق أرقاما كبيرة وعلى مدى سنوات طويلة إلا أن كل هذا الإنفاق لم يتحول إلى مشروع ناجح
العالم العربي لا يزال يشاهد الإخباريات العربية، مثل الجزيرة والعربية وسكاي نيوز عربية وغيرها. صحيح أن هذه القنوات تراجعت في العموم بعد الربيع العربي لصالح القنوات المحلية، إلا أن الأحداث المصيرية مازالت تفرض نفسها على القنوات العربية الكبرى. لا يمكن لعربي إلا أن يُبدي الاهتمام بتطورات الحرب في غزة أو المواجهة في السودان. هذه التغطيات تمنح الفضائيات العربية قيمة إضافية مؤقتة ترتبط بالأزمة. تخف هذه القيمة وتتراجع إثر انتهاء الأزمة أو بعد أن يدب الملل منها في نفوس المشاهدين. غزة والخرطوم في رادار المتابعة هذه الأيام. لكن تجدد القتال في اليمن لن يحظى بزخم المتابعة.
العربي غير الغربي. التطورات على الأرض تسترعي اهتمام العربي. لكن الغربي لن يهتم بما يجري في المنطقة العربية إلا إذا حدثت كوارث أو تغيرات كبرى. وعندما تحدث مثل هذه التطورات، فإنه سيفضل متابعتها من المحطات الغربية التقليدية، وليس من مصادر أخرى. قد تثير فضائية روسيا اليوم فضول المشاهد الغربي ليطلع مرة أو أكثر على وجهات نظر مختلفة. لكنه لن ينظر إليها كمصدر إخباري موثوق. المصداقية شيء مهم في الغرب. كما أن الغربي قد لا يعرف بالأساس كيف يصل إلى بث الفضائيات الأخرى. من دون اهتمام بالبلد العربي المعني، من الصعب تخيل أن يذهب المشاهد الغربي العادي إلى تقليب القنوات وإعادة برمجة جهاز الاستقبال، أو البحث على يوتيوب للوصول إلى البث المباشر لهذه القناة أو تلك.
حتى من قبل أن تتربع المنصات التدفقية على عالم البث التلفزيوني وتزيح القنوات التقليدية، لم تتمكن الفضائيات الأجنبية الناطقة بالإنجليزية من تحقيق أي اختراق مهم لدى المشاهد الغربي. على سبيل المثال، يمكن القول إن حظوظ بريس تي في الإيرانية الناطقة بالانجليزية كانت ضعيفة منذ البداية. هذه قناة مؤدلجة تخدم هدفا لا يختلف من حيث الفكرة عن خدمة روسيا اليوم بالإنجليزية للمشروع القومي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن الفشل المدوي، وما ليس له علاقة بالحظوظ أو الأيديولوجيا، كان لقناة الجزيرة الإنجليزية.
لا نعرف بالضبط كم أنفقت قطر على مشروع الجزيرة الإنجليزية. بالتأكيد كان الإنفاق أرقاما كبيرة، وعلى مدى سنوات طويلة. إلا أن كل هذا الإنفاق لم يتحول إلى مشروع ناجح. هنا، لا نجادل في مستوى المحتوى المقدم، فهذا يخضع لتقييم المتلقي. لكن مؤشرات الانتشار كانت ضعيفة جدا وبقيت الأعداد في حدود عشرات الآلاف. هذه الأرقام محبطة بكل المقاييس، لأنها لا تعكس، حتى بالحد الأدنى، متابعة من العرب والمسلمين الناطقين بالإنجليزية من الجيل الثاني من المهاجرين. إذا لم تتمكن الجزيرة الإنجليزية من اجتذاب هؤلاء -وهم أصحاب قضايا تروج لها قطر والإخوان المسلمون وشريحة من بقايا اليسار العربي- فكيف يمكن أن تجتذب المشاهد الغربي؟
والتوصيف بالفشل في استقطاب المشاهد الناطق بالإنجليزية هو وجه من أوجه ضعف أداء الجزيرة الإنجليزية. الوجه الآخر كان الرسوب في امتحان الدفاع عن قطر نفسها أمام حملة الانتقادات الكبيرة التي تعرضت لها على مدى أعوام بسبب المشكلات المصاحبة لاستضافتها مونديال 2022. قد يكون إطلاق الجزيرة الإنجليزية قبل سنوات من الاستضافة ضمن خطة الدوحة لحملة العلاقات العامة والترويج للبلاد تمهيدا لمونديال قطر. لعل الفكرة كانت أن يعتاد الغربيون على مشاهدة الجزيرة الإنجليزية، وأن تكون حملة العلاقات العامة جاهزة وقت يحين موعد بطولة كأس العالم لكرة القدم. ما حدث، كما شهدنا كلنا، هو العكس. لم تتمكن الجزيرة الإنجليزية من القيام حتى بدور الإطفائي أمام الهجمة الإعلامية الغربية. لو كانت الجزيرة الإنجليزية ناجحة بدورها في تحقيق الاختراقات في عقل الغربي كما كان يفترض، لما سمعنا بمشاكل من نوع اللجوء إلى رشوة نواب أوروبيين كي يتصدوا بالنيابة عن قطر للاتهامات الخاصة باضطهاد العمال الأجانب أو تخويف المثليين أو منع الكحول في ملاعب قطر.
◙ المحطات الإخبارية العالمية مثل سي أن أن وسكاي نيوز وبي بي سي ورلد نيوز لا تزال مهمة، لكنها محطات للإطلالة وليست شاشات المشاهدة الدائمة مثلما كانت
للإنصاف، ما كان بوسع الجزيرة الإنجليزية -ولا غيرها- أن تنجح في مهمة من هذا النوع. ثمة قضايا لا يمكن الدفاع عنها. لكن صار من الواضح أن مشروعا إعلاميا مثل الجزيرة الإنجليزية لا يمكن أن يصنع رأيا عاما غربيا مهتما -دع عنك مؤيدا- بفعل السحر والمال. القرار القطري بتقليص الحضور للقناة، للوصول إلى محطة مركزية تبث من الدوحة، هو إجراء أكثر من طبيعي طالما أن الهدف من القناة لم يتحقق.
هذه تجارب ماثلة أمام السعودية التي تخطط لمشروع مماثل. لعل من المفيد الانطلاق بمشروع إعلامي بميزانية معقولة وليست فلكية، للوصول إلى الغربي المهتم. القناة يمكن أن تكون ورشة أفكار وبرامج ونبضات إخبارية تبث على مدى 24 ساعة، ولكن من دون الكثير من المبالغة بالتوقعات أو بحجم الإنتاج. الهدف من البث الفضائي أو التدفقي هو القول إن هذه البرامج التي يعاد تقطيعها وتوزيعها على الشبكات الاجتماعية، هي برامج محترفة من قناة محترفة وليست مقاطع فيديو تنتج في مرآب خلف بيت.
التفكير في المحتوى مهم، ولكن ضمن سياق أبسط يخلو من البهرجة والإسراف، أو لكي نقول إن السعودية أطلقت “أم الفضائيات” الناطقة بالإنجليزية. ما يوجه إلى المتلقي الغربي ينبغي أن يكون عمليا ومباشرا لتحقيق التأثير على عالم يناصب السعودية العداء، كما بينت تجارب التشويه الشخصي للقيادة السعودية وشيطنة القرارات التي تتخذها، وهي القرارات التي تتوافق مع المصالح الوطنية للسعودية، لكنها ليست ما اعتاد الغرب الحصول عليه من تنازلات وتسهيلات من الرياض.
لا يوجد ما يمنع أن تضم الفترينة الزجاجية للإعلام السعودي قطعا من الكريستال اللماع. لكن ما الضير في أن تكون قطعا عملية ومفيدة وليست تماثيل استعراضية بلا فائدة ملموسة. كوم الكريستال المهشم في فترينة الإعلام القطري ليس قطعا زجاجية فقط، بل هو درس.
د. هيثم الزبيدي
كاتب من العراق مقيم في لندن