لعنة إسمها الإمتحان
سعيد عبد الهادي المرهج
ها قد بدأت الامتحانات، وبدأ التوتر العائلي، يسبقه توتر لا مثيل لها يصيب جميع المؤسسات التعليمية. توتر سببه الرئيس أن الطالب العراقي في ظل حطامنا الحالي لم يعد بالالتزام المطلوب، فثمة العائلة، والعشيرة والحزب… كلها لديها الاستعداد لإهانة كرامة المؤسسة التعليمية، هذه المؤسسة التي وجدت لتعليم الكرامة، وهل العلم والأخلاق إلا كرامة! دفعا عن طالب مسيء، أو سيّء، والحوادث أشهر من أن نذكرها وأكثر!
دراسة بلا امتحان
التعليم عند العلماء المسلمين علاقة بين عالم ومتعلم، لا امتحان فيه، بل إجازة يمنحها العالم لمن يلمّ بالمادة العلمية التي يدرسها. وهذه الاجازة تُعتمد في جميع أقطار المسلمين لارتباطها باسم المانح. ولم نسمع عن امتحان أقيم في بغداد، منذ أصبحت عاصمة العلم في العالم، إلا رواية عن امتحان شوفي رواها ابن أبي أصيبعة في كتابه طبقات الأطباء جرى زمن الخليفة المقتدر (القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي) لأطباء بغداد.
وكما أشرنا في حديثنا عن نظام المقررات المنشور في جريدة الزمان. فإن العالم اليوم يعود إلى هذا النظام. وما التجربة الفلندية إلا مصداق لهذا. لقد ألغي النظام الامتحاني وليد القرن التاسع عشر واستبدل بنظام الاستاذ (الشيخ) والتلميذ القديم. وهنا استذكر ما قاله التربوي العربي منير فاشه: “ببغاء وتاجر… أجلب كلماتٍ مُصنّعة ضمن القبيلة الأورو-أمريكيّة، أرددها كالببغاء للطلبة مقابل ثمن مرتفع، وكلما كانت الكلمات أقرب إلى عالم الاستهلاك كلما كان الثمن أعلى”. الأمر كله يتعلق بأننا شعوب فقدانها الثقة بحاضرها جعلها تفقد الثقة بماضيها، وتشعر بالدونية المعرفية أمام كل ما هو غربي. فإذا كان التسلط الاستبدادي يمثّل شكل الحكم علينا، فالمتسلط نفسه ُمُمتهَن بعبوديته للأور- أمريكي، وهو ما رسخ روحية الانكسار، وفقدان الثقة بالنفس؛ أقسى ما يمكن أن يعيشه الإنسان هو شعوره بأنه عبد لعبد.
لعنة الامتحان
ممارسة السلطة
من هنا يمكن ببساطة سحب مقولات المفكر الفرنسي ميشيل فوكو حول (لعبة) المعرفة والسلطة نحو فضائنا العربي؛ إذ نجدها أكثر انطباقا على حالنا: “حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات، وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة”. وربما ما قدمه التربوي النمساوي (إيفان إيلتش) في كتابه (مجتمع بلا مدارس) يمثل مصداقا من المجال التربوي لأفكار فوكو. إنه الشعور بأن المدرسة أصبحت تجذّر السلطة لا تصنع المعرفة. لم يعرف العالم الإسلامي النظام المدرسي، بالشكل الذي نألفه الآن، لكنه تفوق في جميع المعارف، وأصبح قبلة أنظار الدارسين ومقصدهم. وربما هو واحد من أفضل الأنظمة في تأكيده على أن النجاح في المنجز، والمنجز أكبر من مجرد امتحان، بل المنجز تمثّل الطالب لما درسه لا مجرد ترديده الببغاوي له: ونحن معلمي اللغة العربية نتداول طرفة امتحانية لطالب مع معلم للبلاغة يُدعى (بشير)، إذ وجد ورقة امتحانية كتب فيها الطالب بدل الإجابة قصيدة شعرية، يبدو أنه نظمها أثناء الامتحان، قال فيها:
أبشير قل لي ما العمل
واليأس قد غلب الأمل
قيل امتحان بلاغة
فحسبته حان الأجل
وفزعت من صوت المراقب
إن تنحنح أو سعل
وأخذ يجول بين صفوفنا
ويصول صولات البطل
أبشير مهلاً يـا أخي
ما كل مسألة تحل
فـمـن البلاغة نافع
ومن البلاغة ما قتل
قـد كنت أبلد طالب
وأنا وربي لم أزل
فإذا أتتك إجابتي
فيها السؤال بدون حل
دعها وصحح غيرها
والصفر ضعه على عجل!
فما كان من الأستاذ بشير إلا أن يعدها إجابة تستحق نجاح صاحبها لما فيها من بلاغة، حقق فيها ما يصبو إليه علم البلاغة نفسه فطريا بلا تمحل.
يا ترى هل بيننا أستاذ كالأستاذ بشير يعرف أن التطبيق هو الغاية وليس المادة النظرية إلا طريقه؟