"بقلة ليها"

بقلم حكيم مرزوقي تموز/يوليو 25, 2023 85

"بقلة ليها"


الاستهتار شكل من أشكال المقاومة، وآلية من آليات إثبات الذات، لكنها كحالة من استعاذ عن الرمضاء بالنار في هذا الحر القانط، و"البقلة" لنا بالمرصاد.

الكثير من الناس يقاومون الحر بما هو أحر منه
البقلة نوع من النباتات التي تصنف من الخضروات، وتوصف لأمراض عديدة، لكنها في تونس كناية عن آفة تصيب الواحد بالهذيان وفقدان التمييز بفعل تأثير حرارة الشمس.

يقال فلان “مبقّل” -بنطق القاف جيما قاهرية- لمن ضل صوابه وبدأت مداركه بالترنح، خصوصا في مثل هذه الأيام وقد تحالف ضدنا الحر مع صروف الدهر.

لا عجب إذن من أن تعرف نبتة البقلة بـ”الحمقاء”، وذلك لأنها تنبت وسط السواقي فيقلعها الماء أثناء سيله.. وهو مصير غالبية الحمقى و”المبقّلين” على كل حال.

لكن التونسيين يستخدمون عبارة “بقلة ليها” للتعبير عن عدم الاكتراث أي فلتذهب الأمور نحو الجحيم، وذلك كلما أقدم أحدهم على ممارسة رغبة أو شهوة أو نزوة دون أن يحسب لها حسابا، تماما مثل عبارة ” اليوم خمر وغدا أمر”.

هذا الصنف من البشر تعج به بلادنا، فترى فقراء الناس يقبلون على ملذات الحياة أكثر من أغنيائهم، فيصرفون ما في الجيب فلا يأتيهم ما في الغيب ثم يعيدون الكرة فيستدينون قائلين “بقلة ليها”.

هؤلاء سماهم صديقي أستاذ الفلسفة رضا الجندوبي بـ”البقلاليهيين” وعين لهم في كل مرة زعيما يختاره من المنفلتين الذين لا يقيمون للحسابات الضيقة حسابا.

“بقلة ليها” عبارة تشعرك بالاندفاع نحو ملذة شخصية ومغامرة صرف دون التنبه للعواقب، وعادة ما تصاحبها حالة كسل ممتعة لدى الرفاق “البقلاليهيين”، لكن قادم الأيام يكون لهم بالمرصاد، فيجرفهم ويفعل فيهم ما يفعله الماء بنبتة البقلة الحمقاء.

الاستهتار شكل من أشكال المقاومة، وآلية من آليات إثبات الذات، لكنها كحالة من استعاذ عن الرمضاء بالنار في هذا الحر القانط، و”البقلة” لنا بالمرصاد، حتى بات الهذيان لغة النخبة والعامة على حد سواء.

الغريب أن الكثير من الناس هنا، يقاومون الحر بما هو أحر منه، فيقبلون على الأطعمة الحادة ويترددون على الحمامات العمومية ذات غرف البخار الحامية، ويتسوقون ويتزاحمون تحت درجة حرارة تذيب الحديد.. فما بالك بالدماغ البشري.

أما الأغرب من ذلك كله، أني مررت اليوم أمام واحد من أولئك الذين فقدوا صوابهم في حديقة الحي الذي أسكنه، وانضم إلى قوافل “المبقلين” تحت ضغط الحياة.

بادرته بالتحية لأنتظر ما سوف يقوله من مفردات غريبة كعادته، لكني فوجئت بأنه رد التحية بأحسن منها، وفي منتهى التهذيب واللياقة حتى في المظهر واللباس.

أدركت ساعتها أن الشمس قد فعلت فعلها، حقا، في تصويب عقله وسلوكه فاستعاد توازنه وفق منطق التعامل بالأضداد، وقس على ذلك في كل شيء.

وإذا استمرت موجة الحر هذه فإن “المبقلين الجدد” لن يكونوا بتلك الأعداد الغفيرة بل قد يشكلون أقلية، على اعتبار أن المقبلين القدامى بدؤوا باستعادة رشدهم وبادروا لارتداء المعاطف وتشغيل السخانات في الداخل للشعور بالبرودة في الخارج.

حكيم مرزوقي
كاتب تونسي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه