د.حسن السراي
كاتب وباحث
لم أَرَ يوماً أمة أو دولة تحترم نفسها تُقدِم على أغراق العالم بالرشاوي السياسية لغرض مصادرة موقف حق ، لكن منذ أكثر من عقدين فاحت الروائح النتنة والتى تعودناها فقط من العدو البائن . عبد الناصر رحمه الله لم يسع وراء اي دولة لشراء موقف فكان العدوان الثلاثي . نكروما الغاني بذل النفيس بلا رشوة . جبهة التحرير الوطني اشعلت كل الجزائر تحت اقدام الفرنسيين . الخطابي أقامها مناحة للمستعمرين على جنودهم في مراكش . عمر المختار إنتهى شامخاً واقفا كالنخيل.
ولم تمت مانغوا العاصمة الفقيرة لنيكاراغوا رغم الشطط الامريكي في مواجهتها اقتصادياً وبقيت شامخة بلا ديون . كاراكاس لا تزال تنبض حياة وألقاً رغم الطابور الخامس الذي يحتل الشوارع. فيتنام دمرت بملء آفاقها الرائعة ، ولكنها كالعنقاء عادت للحياة اكثر إصراراً.
سربرنيتسا حية رغم المجازر والموت. بغداد العزيزة عائدة لألقها ومجدها مهما جار الزمن .كل الامم ألمت وتوجعت في مناح عدة من تاريخها لكنها ستعود بلا حاجة لقمم زائفة ، ونفط ابق ، متهالك في خزائن الاخرين. فدولة الظلم لها ريعها البائس من الزمن، ودولة القسط دائمة بحول الله فلا تجزعوا. والتاريخ لم يذكر في صحائفه كمثل ما يجري ، ولا احد من اصحاب المبادئ قدم رشا سياسية لشراء موقع او منصب لان القضايا عادلة، وقدر الله نافذ. اليوم يأتي من من يشتري المواقف ويضغط ماليا، تماما كما يفعل اعداءنا بنا، بل ويتلاعبون بالتاريخ وبالعقول ويحاولون لف الحقائق وان يلوون عنق الحقيقة ومصادرتها. نعم نحن أمة تجنح الى الصمت ورغم زعيقنا الفارغ لكننا لا ندجن ولا نقبل المزيفين وإن تمادوا.
إنتبهوا ، لسنا أغبياء، بل نبلاء، نحن امة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم التي ومهما قسى وجار الزمن عليها، وأن تهالك الذاكرة لا يمنع فجرها من الشروق ، نحن أمة تهدم جوانبها المهترئة وتلثم جراحها فتقف ثانية منتصبة ، تعانق صروحها أعنان السماء، انها نفسها هي ذاتها في وهجها وسيرها المتعارج، في حنوها ، وفي دفئها وقرها، في صهيلها وهدأتها، هي أمة سيد البشر ومهبط الأنبياء والرسالات العظيمة.
نعم تحصل كبوة هنا وهفوة هناك ، كالذي يحصل الآن حيث تنتفخ الدول العربية من حمى وحكم العائلات ويساء التصرف والتخطيط والارباك السياسي وللأسف وبمجرد ان يغضب سفير الولايات المتحدة الامريكية او السفير البريطاني تنقلب الثوابت في رمشة عين، ليصير العدو حليفا والشقيق عدوا، والنضال الوطنى إرهابا موصوفا ووقائع التاريخ اكذوبة، ودجل اليافطات حقيقة، والعقل خبلا ساخرا والاحساس بلا طعم، فقط نتقاسم المرارات والخيبات والوعي الباكي التعيس وينتشي الاخرون بتوترنا وعجزنا حتى عن التفكير وتحيين الثوابت والمعاني. لا بد للمواطن العربي ان يثبت ويصلب على كثير همه، وان يتبع وعي الساسة وعي الشعب لا العكس، لا وعي الشعبويين.
فوالله لن تدوم بيوت الاعلام الخائن وقنوات الذل التي تمجد وتطبل للغرباء ، ولا بارك الله في حرف يتيه ظلاما وخيانة من على أديم وريقات مكتوبة لصحيفة أو مجلة هابطة، أو في موقع إليكتروني مقيت .
الشعوب الحية لم تمت ، وخير مثال؛ اليابانيون في هيروشيما نهضوا من بين ركام ومخلفات أخطر قنبلة نووية بالتاريخ بعد أشنع وأبشع جريمة وأزالوا مخلفاتها وإنتشلوا إشلاء أجساد وجثث مئات الآلاف وعمروا وتصدروا العالم علما وتقدما. وكذلك تعرضت ليننغراد (سانت بيترسبيرغ) لأشد الحصارات في التاريخ والأشنع بلا منازع .
كل ذلك من شدة الجوع عندما حاصرها الجيش الالماني من 1941 الى 1944 وكان عدد الموت يقدر بأكثر من مليون شخص ، ولكنها لم تفن أو تمت بل نهضت وأصبحت في مصاف المدن المتقدمة بكل شيء.
أضف لذلك أن بغداد حاضرة الدنيا نالها ما لا يوصف من دمار وخراب وموت عبر صفحات تاريخها المجيد كان أشدها على يد المغول والتتار وهولاكو ، ولكنها نهضت وعادت حاضرة الدنيا، وكل مرة تنتكس وتنهض وتتعافى أكثر وأقوى من السابق.
نحن على ثقة مطلقة إن مخلفات الإحتلال ستزول قريبا جدا هي وأذنابها وستنهض بغداد وتنفض تراب ومخلفات العدوان بوجوه الأعداء وتتبوء مكانها الحقيقي مدينة السلام وحاضرة الدنيا.
فلا فقر ولا ظلم يدوم، والبقاء والديمومة للشعب فهو مصدر قوة البلدان، فلا يتوهم المتوهمون ويراهن الواهمون على الدعم الخارجي دوليا أو إقليميا لأن أصحاب المباديء لا يشترون المواقف .
أصحاب المباديء تعني أشخاصا ودولا ، والمواقف المشتراة تعني مواقف الأشخاص والدول . دعوا كل ذلك جانبا وأقصدوا الشعوب لأنها هي صاحبة المباديء وسيدة المواقف . فلا مال الخليج ينفع ولا عصا أمريكا تغير عقل شابا ناضجا.