البلد الذي كان سباقا إلى إلغاء العبودية لن يقبل الاتجار بآلام البشر
قصة شمال أفريقيا مع الهجرة قديمة تمتد على مدى سبعة عقود لم تتغير خلالها أسباب ودوافع الهجرة إلا أن المبررات التي تقف وراء كبحها اليوم والسيطرة عليها هي ما تغير.
المعاناة لا تنتهي بالوصول إلى السواحل الأوروبية
الهجرة يجب أن تتوقف مهما كانت الأساليب المتبعة لإيقافها. والنافذة التي يتسلل منها المهاجرون يجب أن تغلق.. القرار اتخذ، سواء بالإغراء أو بالردع، سيُحال دون وصول القوارب المنطلقة من شواطئ أفريقيا الشمالية إلى شواطئ أوروبا.
وإذا كانت دوافع إيطاليا ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة طوفان الهجرة غير الشرعية المخاوف من الآثار الديموغرافية والثقافية والاقتصادية التي قد تترتب على الأعداد الهائلة من المهاجرين الذين ينجحون في دخول أراضيها برا وبحرا، فإن تحرك الحكومة التونسية مؤخرا لمواجهة الظاهرة ينبع من دوافع إنسانية تضاف إلى ذلك كله.
ليس سرا ما يتعرض له المهاجرون غير الشرعيين من مآس وخداع واستغلال من قبل عصابات التهريب، وتونس لن تسمح بالمتاجرة بآلام البشر واستغلال ظروف حياتهم القاسية وتتركهم ضحايا بأيدي المهربين.
قصة دول شمال أفريقيا مع الهجرة وخاصة التونسيين معها قديمة تمتد على مدى سبعة عقود، لم تتغير خلالها أسباب ودوافع الهجرة، إلا أن المبررات التي تقف وراء كبحها اليوم والسيطرة عليها هي ما تغير.
نكتفي بالحديث عن تونس نموذجا..
◙ عناصر الأمن التونسية طوقت أماكن تعرف بأنها "نقاط أمنية سوداء" في مناطق جبنيانة وقرقنة والمساترية، التي أصبحت نقاطا رئيسية لمغادرة قوارب الهجرة باتجاه إيطاليا
انتهت الحرب العالمية الثانية في 2 سبتمبر 1945 وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ نالت تونس استقلالها عن فرنسا. سببت الحرب العالمية الثانية نقصًا حادًا في القوى العاملة في دول أوروبا بسبب الخسائر البشرية وتدمير البنى التحتية والصناعات، برزت معها حاجة ماسة إلى القوى العاملة.
وتم توجيه الدعوة للعمال من شمال أفريقيا لملء الفجوات في سوق العمل وإعادة الإعمار والمساهمة في نهوض اقتصاديات هذه الدول. إلا أن الرحلة لم تكن دون متاعب، كانت هناك تحديات وصعوبات تواجه المهاجرين في المجتمعات التي حلوا بها.
تونس المستقلة حديثاً شكلت مصدرا لا ينضب للأيادي العاملة، خاصة أن اقتصاد تونس الخارجة من نير الاستعمار لم يكن قادراً على استيعابها. وكان من الطبيعي أن يتطلع الشباب إلى الهجرة بحثا عن فرص عمل. وكانت فرنسا مقصدهم الأول، فالذهاب إليها لا يتطلب تأشيرة ولا ملف هجرة؛ كل ما هو مطلوب أن يكون لديك جواز سفر وتذكرة ذهاب.
لم تر الدولة التونسية في هجرة الشباب ما يدعو إلى القلق. على العكس رأت في هجرة هؤلاء الشباب، وكانوا غالبا من الفقراء، فرصة لتخفيف العبء عن كاهل الدولة ومصدرا للعملة الصعبة.
كانت تونس تأمل أيضا أن يصبح المهاجرون ممثلين لها في دول الهجرة.
ما حصل لم يكن كما اشتهت حكومة تونس تماما، حيث تركزت جموع المهاجرين في أحياء فقيرة داخل المدن، وكان أغلبهم أميين وفي أحسن الأحوال ذوي تحصيل علمي منخفض، كل ما يمتلكونه هو جهدهم. فاشتغلوا في أعمال مرهقة وبأجور متدنية. جيل الآباء عانى أسوأ مظاهر الغربة، من غياب الحقوق والاحتقار إلى العنصرية التي تصل إلى التعنيف وحتى القتل. لكنهم على الرغم من ذلك كانوا سعداء، فالعيش في باريس وغيرها من كبرى المدن الفرنسية لا يشبه العيش في القرى التي جاءوا منها والتي تفتقر إلى كل أساليب الترفيه.
يُقدَّر عدد المهاجرين التونسيين اليوم بأكثر من مليون ونصف مليون مهاجر من أصل 12.4 مليون تونسي تقريبا. هذا الرقم لا يشمل المهاجرين المقيمين بطريقة غير شرعية أو غير المسجلين لدى البعثات الدبلوماسية التونسية، ما يعني أن هناك عشرات وربما مئات آلاف آخرين. يعيش في أوروبا أكثر من مليون مهاجر وتبقى فرنسا لأسباب تاريخية وثقافية، الوجهة الأولى حيث يعيش فيها قرابة نصف عدد هؤلاء المهاجرين.
أسباب هجرة التونسيين إلى أوروبا بالأمس هي نفس الأسباب التي تدفعهم اليوم إلى الهجرة؛ البطالة والفقر والرغبة في تحسين أوضاعهم، إلى جانب أعداد من الطلبة الراغبين بإكمال تحصيلهم العلمي.
موجات الهجرة بدأت منذ ستينات القرن الماضي وما يزال النزيف مستمراً إلى اليوم، ومع النزيف تشبعت الأسواق الأوروبية بالمهاجرين، وكانت الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم بعد حرب تشرين الأول – أكتوبر 1973 بين دول عربية (مصر، الأردن، سوريا) وإسرائيل، كفيلة بدفع حكومة الإليزيه في باريس إلى الإعلان عن تغييرات في سياساتها المتعلقة بالهجرة.
بعد أربع سنوات (1977) أعلنت فرنسا عن قرارها إعطاء منحة بقيمة عشرة آلاف فرنك فرنسي للمهاجرين من شمال أفريقيا الذين يوافقون على العودة طوعا إلى بلدانهم.
لم يستجب المهاجرون للدعوة مفضلين البقاء في فرنسا.
◙ معاناتهم لا تنتهي حتى في حال نجاتهم ووصولهم إلى السواحل الأوروبية، حيث يتم احتجازهم في مراكز خاصة في انتظار ترحيلهم
الدولة الفرنسية فهمت الرسالة؛ فات الأوان ويجب التركيز على منع تدفق مهاجرين جدد.
وفعلاً بدأت سياسة فرنسا المتعلقة بالهجرة بالتشدد انطلاقا من منتصف الثمانينات، حيث فرضت تأشيرة دخول على التونسيين (وغيرهم) ووضعت شروطاً شبه تعجيزية لمنحهم أوراق الإقامة.
فرنسا ومعها دول أوروبا أصبحت تريد صفوة الصفوة من المهاجرين فقط، وهي قائمة تضم طلبة متفوقين، أطباء، مهندسين، فنانين، حرفيين وعمالا مهرة.
نجحت أوروبا مؤقتا في السيطرة على تدفق المهاجرين خاصة بعد أن ضمنت تعهدات تونسية بالتصدي للمهاجرين غير النظاميين، حيث أصدرت الحكومة التونسية عام 2003 قوانين لمجابهة الظاهرة ودعمت عتاد خفر السواحل لكي يحرسوا حدود أوروبا في أفريقيا.
رغم ذلك لم تستطع تونس خلال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي القضاء على ظاهرة “الحرقة” نهائيا، لكنها نجحت في الحد من أعداد المهاجرين غير الشرعيين، إلى أن جاء “الربيع العربي” وما صاحبه من فوضى استغلها عشرات الآلاف من التونسيين (30 ألفا في سنة 2011 وحدها) لعبور البحر.
بعد 12 عاما تبدو هذه الأرقام متواضعة. ويظهر آخر تحديث لبيانات الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود والسواحل (فرونتكس) عبور أكثر من 232 ألف مهاجر غير نظامي الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الثمانية الأولى لهذا العام، وهو أعلى رقم منذ عام 2016، نصفهم قدم عبر المنطقة الوسطى للبحر الأبيض المتوسط، حيث ينشط مهربو البشر لدفع اليائسين إلى الإبحار على متن قوارب مكتظة ومتداعية انطلاقا من السواحل التونسية والليبية مقابل آلاف الدولارات.
هذه الأرقام دفعت وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني إلى وصف تدفق المهاجرين بـ”مستودع بارود منفجر”، متحدثا عن “حركة مستمرة للملايين والملايين من الأشخاص لا تصمد أي جدران أمامهم”، قائلا “انظروا إلى تاريخ الغزوات البربرية التي لم يتم إيقافها من قبل الجيش الروماني”، وذلك “على الرغم من أنه كان أقوى جيش في التاريخ العسكري”.
رحلة المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون عبور البحر المتوسط لا تخلو من مآس كبيرة ومخاطر عديدة، في قوارب غير صالحة للملاحة ومكتظة بحمولتها من البشر، وهو ما يؤدي غالبا إلى غرق القوارب وفقدان الأرواح في رحلات توصف برحلات الموت.
هناك قصص عن حالات يتعرض فيها المهاجرون للعنف والاستغلال من قبل المهربين أو العصابات التي حولت ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى تجارة، وظروف صحية يتعرضون خلالها للإجهاد ونقص التغذية ونقص المياه الصالحة للشرب.
ولا تنتهي معاناتهم حتى في حال نجاتهم ووصولهم إلى السواحل الأوروبية، حيث يتم احتجازهم في مراكز خاصة في انتظار ترحيلهم.
وهددت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني مؤخرا بتشديد القوانين ولاسيما تمديد الفترة القصوى للاحتجاز من 135 يوما إلى 18 شهرا.
ما تريده ميلوني من وراء ذلك هو تبليغ رسالة وصفتها بـ”بالغة الوضوح” إلى كامل أفريقيا “إن سلمتم أمركم إلى مهربين لانتهاك القوانين الإيطالية، يجب أن تعلموا أنه عند وصولكم إلى إيطاليا، سوف يتم توقيفكم ومن ثم إعادتكم”.
◙ ليس سرا ما يتعرض له المهاجرون غير الشرعيين من مآس وخداع واستغلال من قبل عصابات التهريب، وتونس لن تسمح بالمتاجرة بآلام البشر واستغلال ظروف حياتهم القاسية
واقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي زارت لامبيدوزا برفقة ميلوني، خطة من عشر نقاط لمساعدة روما على مواجهة هذه الأزمة. تهدف الخطة إلى التشدد في التعامل مع المهربين، وتسهيل السبل القانونية للدخول إلى الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى المخولين تقديم طلب لجوء.
المآسي التي يتعرض لها المهاجرون غير الشرعيين سواء كانوا مواطنين تونسيين أو أفارقة يستخدمون الشواطئ التونسية نقطة عبور، والتصميم الأوروبي على التصدي لهم ومنعهم من الوصول إلى الشواطئ الأوروبية، دفعا الرئيس التونسي قيس سعيد للتحرك لوقف الاتجار بآلام البشر.
الحملة التي تستهدف الوسطاء والمهربين الذين يتاجرون بآلام الناس بدأت من مدينة صفاقس، بمشاركة وحدات من الحرس الوطني التونسي داهمت منازل تؤوي المئات من المهاجرين، واعترضت شاحنات تحمل مهاجرين باتجاه الشواطئ واحتجزت العديد من القوارب وألقت القبض على مهربين.
طوقت عناصر الأمن التونسية أماكن تعرف بأنها “نقاط أمنية سوداء” في مناطق جبنيانة وقرقنة والمساترية، التي أصبحت نقاطا رئيسية لمغادرة قوارب الهجرة باتجاه إيطاليا.
من حق الحكومة التونسية إبداء القلق من أفواج المهاجرين غير الشرعيين الباحثين عن فرصة للاتجاه إلى الشواطئ الأوروبية، خاصة أن الدول الأوروبية مصممة على منع وصول قوارب المهاجرين إلى شواطئها، ومن حق الرئيس سعيد أن يصدر تعليماته لوقف المآسي الإنسانية التي يتعرض لها المهاجرون.
البلد الذي كان سباقا إلى إلغاء العبودية، لن يسمح اليوم باستعباد البشر والمتاجرة بهم.
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس