عين الحلوة التي أصيبت بالعمى

بقلم علي الصراف أيلول/سبتمبر 21, 2023 95

عين الحلوة التي أصيبت بالعمى


الرؤى كانت تتناحر تحت قيادة عرفات ولكن "إدارة التعددية" أجبرتها على البقاء تحت راية واحدة تعقلن المتنازعين وتجرهم إلى التعامل مع الواقع والممكن بينما الرؤى صارت تتناحر تحت قيادة عباس.

رئيس أعمت السلطة عينيه
التعددية جزء من الطبيعة الفلسطينية. إنها مستمدة من مدن وبلدات لكل منها خصائص ومواريث وأسر وأدوار. غزة غير نابلس في النهاية. شئت أن تعترف بذلك أم لم تشأ، فهذا هو الواقع. وهو ما يعني أن القضية الفلسطينية وإن كانت في جوهرها واحدة، حيال الآخر “العدو”، إلا أن ذلك لم يمنع المقاربات المختلفة بين أبنائها أنفسهم.

“إدارة التعددية” تتطلب مهارة من نوع خاص. تلك المهارة تظل تمسك بالعصب على أرض الواقع، بينما تسمح لأطرافه بأن يتناحروا على أرض النظريات.

منظمة التحرير الفلسطينية نشأت على هذا الأساس. هناك هدف تحرري واحد، ومقاربات مختلفة للوصول إليه. وفي “سياسة الاختلاف” كان الراحل ياسر عرفات يجمع بين تقديم الواقع كأساس وبين مشارب الاختلاف عليه.

الكل يعرف قوله الشهير: “والله، ما منعت أحدا أن يذهب لتحرير فلسطين”. بمعنى: إذا كنت جبارا بالمواقف والشعارات والنظريات، فتفضل. هذه فلسطين أمامك.

هذا “الخطاب” لم يقصد الزعماء العرب الذين حاربوا استعداداته التفاوضية المبكرة، أو “مساوماته الخيانية”، فقط. كان يقصد زعماء الجبهات الفلسطينية في جواره بالذات. وكلما “طحش” أحدهم، عاد من “طحشته” متيقنا أرض الواقع.

◙ لقد أصيبت عين الحلوة بالعمى، لأن هناك، على رأس القضية الفلسطينية، رئيس أعمت السلطة عينيه، فصار يتخبط. لا هو قادر على أن يوقف التشرذم، ولا هو قادر على أن يضبط جماعته نفسها

عرفات كان غضوبا، إنما على مزيج من عمل وأمل. أراد، من بعد كل الهجرات الطويلة، أن يقف على موطئ قدم في فلسطين نفسها، لا أن تكون منظمة التحرير طريدة لمنفى يطردها إلى منفى. وحقق ما أراد. دخل محررا إلى جزء من فلسطين، ولديه خارطة طريق لتحرير أوسع على أساس القرارين 242 و338 لمجلس الأمن الدولي. “المساومة” جمعت بين تنازل كبير (عن فلسطين التاريخية) وأمل كبير (بفلسطين التاريخية نفسها)، إنما على مقدار من الأمر الواقع، لدولة يتم بناؤها على أرض الواقع.

ولقد حورب، ومن ثم قُتل، بسبب هذه المقاربة.

الرئيس محمود عباس، لم يرث من عرفات شيئا. ورث الكرسي فقط. وسرعان ما انقلبت “إدارة التعددية” إلى “إدارة التشرذم”، قبل أن ينقلب التشرذم نفسه إلى تفسخ.

لم يكن الرئيس عباس قادرا على “إدارة التعددية” ولا حتى معرفة العصب الذي يُمسك بها، فعجز عن الجمع بين المتناحرين المتنافسين كل على رؤياه. بل إنه زاد في تمزيق الفصائل. مزق فتح نفسها بمزاجيته المتعكرة. وفتت حتى نواة الدولة. وصار هو الحاكم بأمره، الآمر الناهي، سلطان زمانه، الذي يمنح عطايا الفساد والسلطة لمن شاء أن يتقرب إليه. وعندما انتهت ولايته مددها لنفسه. وعندما ضاقت الخيارات أمام الحاجة إلى العودة إلى الانتخابات، أوجد حجة لكي يفلت منها.

التعددية تحولت إلى تشرذم، منذ أن أصبحت السلطة الفلسطينية في رام الله، سلطة بلديات، تقوم على حماية أمن إسرائيل.

الرئيس عباس، كان غضوبا أيضا، إنما على عجز وفشل. وكان من الطبيعي تماما أن تتمرد عليه غزة. كما كان من الطبيعي أن يتحول إلى جلاد يقتل معارضيه ويسجنهم، مثلما تفعل إسرائيل نفسها. حتى سأل الإسرائيليون أنفسهم: إذا كان لدينا رئيس مثل هذا، فما الحاجة إلى أن نتورط. ثم حتى أصبح بقاء سلطته هدفا يجدر بأعتى سلطة لليمين الإسرائيلي المتطرف أن تدافع عنها وتسعى إلى إبقائها.

هذا النموذج، أطال البقاء في السلطة، لكي تتولد من التشرذم عوامل التفسخ. وكان ذلك تحولا طبيعيا تماما عندما أصبح مستحيلا، تحت قيادة عباس، أن يعثر الفلسطينيون على عصب يجمعهم.

لا تحتاج أن تتذكر ما حدث في غزة، عندما انقلبت “حماس” على “فتح”، واندلعت المجازر. فازت حماس في يناير 2007 في الانتخابات التشريعية. رفضت فتح تسليمها السلطة. فأصبح القتال هو “المخرج” صيف ذلك العام. فألقت حماس القبض على غزة، بينما ألقت فتح القبض على ما لديها في الضفة الغربية.

الرؤى كانت تتناحر، تحت قيادة عرفات، ولكن “إدارة التعددية” أجبرتها على البقاء تحت راية واحدة، تعقلن المتنازعين، وتجرهم إلى التعامل مع الواقع والممكن. بينما الرؤى صارت تتناحر، تحت قيادة عباس، لأن تناحرها صار هو “الحل” و”المخرج”.

◙ الرئيس محمود عباس، لم يرث من عرفات شيئا. ورث الكرسي فقط. وسرعان ما انقلبت "إدارة التعددية" إلى "إدارة التشرذم"، قبل أن ينقلب التشرذم نفسه إلى تفسخ

لا تحتاج أن تتذكر شيئا. لأن كل ما نتج عن فنون عباس في “إدارة التشرذم” لا يزال قائما. فقط انظر إلى امتدادات التشرذم في العلاقات بين قادة الفصائل الفلسطينية، بل بين قادة فتح أنفسهم. ثم قل للناظرين، ما إذا رأيت قياديا على اختلاف، مد يد التعاون إلى قيادي آخر، إلا من رحم ربي، وظل يغرد نائيا ومنفردا.

التفسخ هو الذي أصاب عين الحلوة بالعمى. لم تعد الفصائل المتناحرة في هذا المخيم ترى شيئا. لم تر أنها تتصارع في بلد لا تنقصه المآسي. لم تر أنها تتصارع على “سلطة” في المخيم أدنى قيمة من أن يحكم. لم تر أن الفقر والعوز والحرمان يجدر أن يُواجه أولا، قبل أن تخاض صراعات الرؤى المتناحرة. لم تر أن القضية التي يقودها الرئيس عباس ليست هي “القضية”، وأنه حولها إلى “سلطة” ليكون سلطان زمانه. كما لم تر أنها تحمل سلاحا، كان ذا غاية أخرى، فصار ذا غاية قذرة، يقتل الفلسطيني به فلسطينيا كان من الممكن، في ظروف أخرى، أن يُودّع كشهيد في معركة أنظف على الأقل. لم تر أن قتلى المعارك يدفنون كما يجدر بالقمامة أن تُدفن، لأنها تفسخت بهم، وأصبحت عارا يفوح من أرجائه العفن، ويثير الاستهجان والاستنكار.

لقد أصيبت عين الحلوة بالعمى، لأن هناك، على رأس القضية الفلسطينية، رئيس أعمت السلطة عينيه، فصار يتخبط. لا هو قادر على أن يوقف التشرذم، ولا هو قادر على أن يضبط جماعته نفسها. ولا الفلسطينيون أنفسهم قادرون على وضع حد لسلطته. حتى صار التفسخ هو عنوان الانحدار السياسي الفلسطيني. التفسخ ومن ثم العمى عن أن الصراعات التي أوصلت غزة إلى حافة اليأس والتمرد، هي نفسها التي جعلت اللبنانيين يضيقون ذرعا بـ“القضية المركزية للأمة العربية”.

كم تحتاج من العمى لكي لا ترى ذلك وأنت تتحارب في لبنان هذا. وكم سيكون الظلام طاغيا لكي لا ترى أن لبنان غارق بمشاكله؟ ثم كم تحتاج من عمى التشرذم لكي لا ترى أن العالم العربي الذي يُحيط بك لم يعد قادرا على أن يرمي بنفسه وبمصائره في برميل “إدارة التفسخ” الذي يقوده الرئيس عباس.

علي الصراف
كاتب عراقي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه