والإمارات في قلب مصر
لم تهتم مصر بما تردد حول النفوذ الإماراتي المتصاعد وتعاملت مع الأمر كعادتها في ملفات السياسة الخارجية بتريث لأنها وصلت إلى تفاهمات صريحة بشأن علاقاتها مع أبوظبي لا تجعلها عرضة للاهتزاز.
القاهرة وأبوظبي.. روابط راسخة في السراء والضراء
كتبت هنا في الرابع من أغسطس الماضي مقالا بعنوان “مصر في قلب الإمارات” تفاوتت القراءات السياسية له، بينما الهدف منه تأكيد عمق العلاقة بين البلدين مهما كانت هناك تباينات في تفاصيل بعض القضايا الإقليمية.
لفت نظري أحد الأصدقاء إلى ما حواه المقال السابق من تركيز على الجانب الإماراتي، ونصحني باستكماله بمقال آخر من الزاوية المقابلة، وجاءت زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى أبوظبي قبل أيام واللقاء الصافي مع نظيره الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، لتكون مناسبة لكتابة تجليات أخرى في هذا المقال.
بدأ الحديث عن طموحات الإمارات الإقليمية يتزايد في الصحافة الأجنبية وأحيانا العربية وانصبت بعض الإشارات على أهدافها السياسية وكأن أي تقدم تحرزه أبوظبي في المنطقة سوف يأتي على حساب القاهرة، أو أن هناك منافسة حادة بينهما، وتم استغلال خلافات في تفاصيل بعض القضايا الإقليمية الساخنة، والتي لم يثبت أن هناك صداما بينهما أو تعارضا في المصالح أو تأثيرا مباشرا عليها.
◙ مصريون يعتزون بالعلاقة مع الإمارات ربما أكثر من غيرها، ويشاهدون ملامح من السيرة العطرة لمؤسس الدولة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في بعض الأماكن التي تحمل اسمه
كل دولة تعلم جيدا المساحة التي تتحرك فيها الأخرى وتبتعد قدر الإمكان عن المناطق الغامضة التي يمكن أن تفتح المجال لتكهنات وتخمينات تضر بمصالحهما المشتركة.
لم تهتم مصر بما تردد حول النفوذ الإماراتي المتصاعد وتعاملت مع الأمر كعادتها في ملفات السياسة الخارجية بتريث، لأنها وصلت إلى تفاهمات صريحة أو ضمنية بشأن علاقاتها مع أبوظبي لا تجعلها عرضة للاهتزاز سريعا، قوامها عدم تبني إحداهما سياسات تؤثر سلبا على الأخرى، حتى لو حدثت تغيرات في طريقة التعامل الاقتصادي وانتقالها من مربع المساعدات إلى التوسع في الاستثمارات.
ما منح بعض الإشارات أهمية بشأن العلاقة بين البلدين هو التغير الحاصل في السياسة الاقتصادية الخليجية التي لا تتعلق بمصر فقط أو الإمارات، فكل دول الخليج بدأت تتبنى تصورات مبتكرة ليس المقصود منها القاهرة أو غيرها من العواصم العربية.
ما ضاعف الاستنتاجات السلبية أن الإمارات والسعودية أيضا قننتا مساعداتهما السخية لمصر التي قُدِّمَت على مدار نحو عشر سنوات كانت الأكثر صعوبة في البلاد، واعترف مسؤولون في القاهرة بهذا الدور مرارا.
تفهمت القاهرة الترتيب الإماراتي الذي لم يؤثر على حجم الاستثمارات في مصر، بل زادت تدفقات الإمارات في العامين الماضيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في شكل استثمارات، تساعد على الحد من تشعب الأزمة الاقتصادية، وتفتح لآخرين أفقا للاحتذاء بالإمارات، وتؤكد أن أجواء الاستثمار باتت مواتية في مصر.
أشار أحد المصريين ممن زاروا مدينة العلمين الجديدة إلى التواجد الكثيف لمواطنين إماراتيين هناك، ما يتسق مع الرفاهية العالية التي تتمتع بها هذه المدينة العالمية على سواحل مصر الشمالية، ويمكنها أن تجذب الكثير من مواطني دول الخليج عموما.
◙ العلاقات بين الدول عندما تصل إلى الطور الإستراتيجي يصعب اهتزازها، ما يجعل دوما الإمارات في قلب مصر
لعل الصور التي تناقلتها صحف وتلفزيونات ووكالات أنباء لجولة الشيخ محمد بن زايد وسط مواطنين عاديين خلال زيارته للعلمين في أغسطس الماضي، عكست حجم المودة التلقائية له من جانب المصريين، وعززت مكانة الإمارات لديهم شعبا وحكومة، وتجهض محاولات البحث عن نوافذ يمكن الدخول منها لإحداث توتر بين البلدين.
وعلى الرغم من الأحاديث المتناثرة حول العلاقة المتينة بين الإمارات وإثيوبيا، إلا أن الأولى لم تنس الهم المصري بشأن سد النهضة وسعت إلى استضافة لقاءات بين وفود فنية مصرية وإثيوبية للتباحث حول الطريقة المناسبة لحل أزمة السد.
كما أن الشيخ محمد بن زايد لم يتجاهل هذه الأزمة عندما زار أديس أبابا مؤخرا وعقد اجتماعات مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد وفي ذهنه إيجاد وسيلة للحل، لا تضر بمصالح مصر المائية وتلبي حاجات إثيوبيا التنموية، ولا تزال الجهود مستمرة من أجل فتح نافذة أمل لتسوية فنية وقانونية مُرضية، لأن علاقة أبوظبي الاقتصادية مع أديس أبابا لن تستقيم وهناك منغص أو أزمة مستعصية مع القاهرة.
توجد الإمارات في قلب مصر أكثر من أي دولة خليجية أخرى، فهناك الكثير من العقبات التي تعرض لها مصريون في دول مختلفة، وصلت إلى حد تكرار ممارسة العنف ضد بعضهم، ولم نسمع عن حدوث ذلك في الإمارات التي يقطنها نحو مئتي جنسية مختلفة، يأتي المصريون على رأس من يحتلون مكانة خاصة في الوجدان العام للشعب الإماراتي، والذي يشعر كلما زار أحد أفراده مصر بالمكانة نفسها.
عندما يقارن مصريون بين ما يلقاه أبناؤهم وأصدقاؤهم من العاملين في دول أخرى مجاورة ترجح كفة الإمارات، ومهما شاب العلاقات السياسية من تباينات في الرؤى بشأن بعض الملفات لا ترقى إلى الخلاف بين النظامين أو تتسبب في تعكير المزاج العام للشعبين، ويتم النظر إليها غالبا على أنها مواقف عابرة.
◙ بدأ الحديث عن طموحات الإمارات الإقليمية يتزايد في الصحافة الأجنبية وأحيانا العربية وانصبت بعض الإشارات على أهدافها السياسية وكأن أي تقدم تحرزه أبوظبي في المنطقة سوف يأتي على حساب القاهرة
إذا تم الحديث عن حادثة فردية أو أكاذيب متعمدة يظل المصري لا يصدق أن إماراتيا قام بها، فالذاكرة الجمعية لغالبيتنا تحتفظ بقدر وافر من المحبة والتقدير والاحترام، ما أسس لعلاقات سياسية لا تهتز مع أي فرية تأتي من هنا أو هناك وأسهم في خلق أجواء إيجابية يمكنها احتواء أي عثرة تظهر في الطريق.
لا أجيد الكتابة العاطفية بين الشعوب، غير أن الود الذي لمسته في كل زيارة قمت بها إلى الإمارات في السنوات الماضية جرفني إلى هذا الطريق الذي يعكس علاقة عميقة لا تتوقف على شخص زائر لبضعة أيام، فقد استمعت إلى مواقف إنسانية ومهنية كثيرة من مصريين مقيمين جعلتهم يرتاحون للبقاء في الإمارات أكثر من غيرها.
يعتز مصريون بالعلاقة مع الإمارات ربما أكثر من غيرها، ويشاهدون ملامح من السيرة العطرة لمؤسس الدولة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في بعض الأماكن التي تحمل اسمه أو بصمته الاقتصادية والاجتماعية، ما خلق شعورا تلقائيا بالمحبة له وأبنائه وكل شعبه، فأبرز ما يتسم به هؤلاء الوفاء والتواضع.
نحن ننحاز كثيرا إلى من يحبنا ويخلص لنا ولا يتكبر علينا ويراعي تاريخنا، ونكره من يظهر غطرسة أو تعاليا زائفا، لأننا أصحاب حضارة عريقة، ونعلم أن بلدنا مصر قد يمرض ويمر بأوضاع اقتصادية صعبة، لكنه لا يموت أبدا، وهي الثيمة التي تدركها الإمارات جيدا، حيث تظهر في توجهاتها عندما يظهر التباس سياسي ما.
لم تنجرف القاهرة أو أبوظبي وراء من يريدون تخريب الروابط بينهما وتظل مقوماتها الرئيسية راسخة في السراء والضراء، وهو ما عصمها من التأثر برياح السموم التي يتعمد البعض بثها من وقت إلى آخر، فالعلاقات بين الدول عندما تصل إلى الطور الإستراتيجي يصعب اهتزازها، ما يجعل دوما الإمارات في قلب مصر.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري