أكتوبر فلسطين في جولة حول العالم

بقلم مسار عبد المحسن راضي تشرين1/أكتوير 18, 2023 81

أكتوبر فلسطين في جولة حول العالم


ما يحاول بيبي فعله من دعوة الفلسطينيين في غزة إلى ترك أرضهم وما يفعله جيش الاحتلال في الضفة الغربية هو إعادة لمحاولات بن غوريون سنة 1949 توزيع الفلسطينيين بين الدول العربية.

جسر العرب الحضاري مع العالم
حدث السابع من أكتوبر 2023 كان ثغرة الدفرسوار الغزاوية. الثغرة الأولى كانت عام 1973 التي طوَّقت إسرائيل بها الجيوش المصرية، لكن النُسخة الفلسطينيَّة في القرن الحادي والعشرين، مكَّنت فلسطين من تطويق الجيوش الدبلوماسيَّة في الغرب والمشرق العربي الحاملة للحراب التطبيعية، وإعادة ملء خزان الوعي العربي بوقود القضية الفلسطينية.

أيضا، أثبت 7 أكتوبر لجميع الأنظمة العربية والنفطية منها تحديدا، أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، برميل من النفط الخام الدبلوماسي، لا قيمة له ما دامت مصافي التكرير الشعبي رافضة له وغير قادرة على صناعة مشتقات منه تصلح للاستهلاك السياسي. قول أي شيء آخر يشبه تعليق الملكة الإيرانية السابقة فرح بهلوي “أنت شاعر”، عندما أردت إجراء حوار معها يخصّ الشرق الأوسط وكيفية تحسين العلاقات بين بلدينا بشكل حقيقي.

المملكة الأردنية الهاشمية كانت وما زالت رغم كُل خزَّانات دبلوماسيتها المصنوعة في الغرب، أكثر دول المشرق العربي فهما لحقيقة أنّ المنطقة ليست صالحة لـ”الطبخات الدبلوماسية السريعة”. الملك عبدالله الثاني كان قد عبَّر عن ذلك في كلمة له في بروكسل. كلمات الملك عبدالله الثاني استطاعت التزحلق برشاقة في أذن بروكسل ونالت تصفيقا. والد الملك الأردني، الملك حسين رحمه الله، كان قد قدَّم “مينيو” مستقبليا بالأطباق السياسية التي سيأكلُها الشرق الأوسط، ما دام المطبخ الغربي مليئا بالمكوِّنات الإسرائيلية “السريعة”. أعلن الملك الأب بعد حادث مخيم الكرامة الفلسطيني في 21 مارس 1968 “سيأتي يوم نصبح فيه كُلُّنا فدائيين”.

◙ الحركات الدينيَّة في المشرق العربي، والمتواجدة في مناطق أُخرى من العالم، عليها أن تفهم في ما يخصُّ فلسطين والأنظمة العربيَّة، بأنها إن وصلت إلى سدَّة الحُكم فستكون نُسخة أسوأ من الحاليَّة

تدمير العراق أمام تحالف من ثلاث وثلاثين دولة في تسعينات القرن الماضي، أدّى إلى حصار دبلوماسي خانق للقضية الفلسطينية، وأطلق أولمبياد التطبيع العلني الذي صعد قطار مباحثات مدريد في 1993، وأعطى كأس أوسلو للسلطة الفلسطينية وأخذ فلسطين.

الحصار والأولمبياد، وكأس أوسلو، سببا رعبا للمثقف العربي. سابت مفاصله القوميّة فذهب إلى النار الدينيّة وهو مُغطَّى بزيت أوسلو ليضمن شفاء تاما من روماتيزم القوميّة. الفلسطيني عادل سمارة أشار إلى ثمن استخدام الزيت والنار “تكفير القوميَّة”. أمّا الأنظمة العربيَّة فقد باتت مُضطَّرَة إلى استخدام مُبيَّضات اللغة والمواقف السياسية لتخليصِ جلدِها من كُلِّ لطخة قوميَّة. هكذا اضطرت حركة التحرُّر الفاعِلة والوحيدة في المشرق.. المقاومة الفلسطينية أن تجمع بين الدين والقوميَّة العربيَّة. هنري لورانس قال عن ذلك “المُفارقة أصبحت المقاومة الفلسطينيّة آخر حركة شعبية كُبرى من حركات القوميّة العربيّة”. الروس وكمثالٍ لطيف آخر وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قرروا عدم التضحية بشيء من هذا الإرث. أقنعهم الرئيس فلاديمير بوتين باستخدام ما يشبه مذراة ثُلاثية “نحنُ شيوعيون وقياصرة وأرثوذكس”.

النسخة المصريَّة من أكتوبر 1973، دفعت إسرائيل إلى طلب المساعدة الأميركية والتهديد باستخدام الأصابع النووية يوم الـ12 من أكتوبر. هذا النداء المُشبَّع بالإشعاع الذَّري دفع واشنطن بحسب لورانس إلى أن تسرع “باستعداداتهم بإقامة الجسر الجوي الذي بدأ يوم 14 أكتوبر”. أمّا النُسخة الفلسطينية من أكتوبر فهي وإن حصلت في اليوم السابع لا السادس، إلا أنها دفعت “بيبي” الذي يمتلِكُ “رُبع شارب” من الشَّعر المخفي في رأسِ حِسابات الغرب، إلى طلب المُساعدة الأميركية ومنذُ اليوم الأول، لتبدأ حاملات الطائرات والمُدمِّرات الأميركية بعبور الأطلسي صوب الأبيض المتوسط بعد يومين، التاسع والعاشر من أكتوبر تحديدا.

المفارقة التاريخيَّة الأُخرى الموجودة في أكتوبر الفلسطينية والتي لا تحتاج إلى لُعبة كمالٍ إنشائي أو مجازي، أنها أعادتنا وجهاً لوجه مع بن غوريون وتدعونا إلى السَّير معه بالقرب من باريس يوم الـ22 من أكتوبر كذلك عام 1956. بن غوريون عرض خطَّة للغرب حينها، تصلح للعشريات القادمة من العقود كان مفادها وباختصار “القضاء على الأردن وتقسيم أراضيه، تقسيم لبنان بين إسرائيل وفرنسا وضم سوريا إلى الأخيرة، تدويل قناة السويس ونقل مضيق تيران إلى السيطرة الإسرائيلية”. هكذا نستطيع أن نفهم لماذا لبس الملك عبدالله الثاني بدلة عسكرية وهو يتحدث عن فلسطين، ولماذا قام مع ولي عهده، بعد عودة رئيس وزراء الكيان بيبي إلى المشهد السياسي، بالمشاركة في تدريب للقوّات الخاصّة.

تفسير ما يحاول بيبي فعله من دعوة الفلسطينيين في غزة إلى تركِ أرضهم، وما يفعله جيش الاحتلال في الضفة الغربية، يحمل جذورا باريسيّة، وإعادة لمحاولات بن غوريون سنة 1949 بتوزيع الفلسطينيين بين الدول العربية.

◙ الحصار والأولمبياد، وكأس أوسلو، سببا رعبا للمثقف العربي. سابت مفاصله القوميّة فذهب إلى النار الدينيّة وهو مُغطَّى بزيت أوسلو ليضمن شفاء تاما من روماتيزم القوميّة

الرئيس جو بايدن كان أصغر سياسي دلف للكونغرس في سبعينات القرن الماضي، ليصبح بعدها سيناتور ولاية ديلاور “المُعمِّر”. أشهر السقطات اللغوية عنه قبل حدث أكتوبر الفلسطيني، كان وصفه للرئيس باراك أوباما الذي أصبح نائباً له “إنَّهُ إنسان نظيف”. أوباما ذكر ذلك في مذكّراته المثيرة للجدل معلّقا “كان غريبا ما قاله”. كان ذلك بتقديري نوعاً من الشتيمة السياسية وشعورا تحتانيا من أوباما، بأنَّ بايدن يحاولُ تبييض رئاسته من الجلد الأفريقي – الأميركي، ودلالة كبيرة على أن البيت البيضاوي لا يحتمِلُ ألواناً أُخرى وإلى نهاية العقد الثالث من هذا القرن على أقلِّ تقدير.

القادة الإسرائيليون بدورهم، المدنيون منهم والعسكريون، دائما ما استخدموا لغة سياسيَّة صافيَة في التعبير عن الفلسطينيين. لهذا فإن وصف القائدين العسكريين البارزين في جيش الاحتلال يوآف غالانت وهرتسي هاليفي للفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية” و”حيوانات” ليس غريبا، فالقادة الإسرائيليون عموما ينتمون إلى فصيلة الحيوانات البشرية، بحسب قراءة هانز. جي. مورغنثاو “الإنسان الذي لا يعدو أن يكون إنسانا سياسيا ليس إلا، هو أقرب إلى الحيوان من أي شيء آخر، إذ إنه يكون مفتقرا إلى الكوابح الخلقية”.

الأوروبيون بدورهم وكما كشف أكتوبر الفلسطيني، هم يتأرجحون بين بايدن وغالانت وهاليفي. الفرنسيون مثلا وبحسب تعبير أحد عقولها السياسيَّة تيري دي مونبريال علَّل سبب الانتصار الانتخابي لبوريس يلتسن ضد غينادي زيوغانوف سنة 1996 “لأنه كلب سياسي حاذق”. أيضا فإنَّ قاعدة مونبريال العامَّة عن القادة الأوروبيين بأنَّهم “مستقلون نوعاً ما أكثر من الأميركيين عن اتجاهات الرأي العام في مجال السياسة الخارجية”، فشلت وكانت الحقيقة المعروضة في سوق الإعلام الأوروبي بحسب تقديري “دعم إسرائيل ضروري لتغطية فشل الاتحاد الأوروبي وإخفاء ذيلنا الأميركي”.

تنتمي فلسطين المحتلَّة إلى العالم الثالث وبحسب مونبريال فإنَّ هذا العالم “ليس عالما منظما يهدف إلى غزو كوكب الأرض. فهو لا يطالب بأيديولوجية ذات بعد عالمي. إنه ليس سوى عالم يئن ويقاوم كيفما يستطيع، تجاه المآسي التي تصيبه، لذلك لا يجب البحث بعيدا عن السبب الحقيقي”.

هذه الجملة تجريدية رغم أبعادها الكونيَّة وقُدراتِها السوبر توضيحيَّة، لكنها تؤكِّد أنَّ حضور فلسطين حتّى بيننا نحنُ العرب يكاد يكون تجريديا، ويكاد يكون بعده العملي الوحيد واليتيم متعلقا بإيجاد شرعيّة للأنظمة العربيَّة، غير الراغبة في استبدالِها بالسياسة الرشيدة مع شعوبها. المثقف العربي المفزوع الذي طلب النجدة الدينية بعد أن استقلت الأنظمة العربيَّة قطار أوسلو، عاد وبالتخادم الرخيص مع السلطة العربية، مبشِّرا بما يستطيع السلام مع الكيان أن يفعله من مُعجِزات، ولينتهي مصيره وبحسب تعبير آلفين توفلر “جامع معلومات” عن أفضل السُّبل لاختراق المشرق، بدل أن يكون محاورا إنسانيا. كان يأكل فكرة غربيَّة ويُلقي بفهمه التاريخي كخُردة. المُفارقة أنَّ الطائفية وفلسفة الأقليات كانت اللحظة الأبرز لقُربِه من الشارع العربي ولو عن طريق الهويات الفرعيَّة. العراق أبرز الأمثِلة الحديثة.

◙ أثبت 7 أكتوبر لجميع الأنظمة العربية والنفطية منها تحديدا، أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، برميل من النفط الخام الدبلوماسي، لا قيمة له ما دامت مصافي التكرير الشعبي رافضة له

السؤال المهم هنا هو “ما هي فلسطين – القدس؟”. هذا السؤال حاولت الإجابة عنه في مقال سابق “نيوزيلندا/ دولار القومية البيضاء يطارد يورو اللاجئين الأوروبي”. الآن ربّما أستطيع تكثيفه بالقول “هي جسر العرب الحضاري مع العالم. الكعبة بدون القدس لن تعدو سوى رمز دينٍ لا يحتاجهُ العالم إذ إن لديه المسيحيَّة واليهوديَّة. الدين الإسلامي كان مصهر حضارات ومُصدِّر حضارة. هذا الدين فهمتهُ الروح العالميَّة في فلسطين.. مصهر الأديان. ظهرت فيها طبيعة هيكله الروحي المشترك مع الأديان الأُخرى. بدون حصَّتِنا من القُدس لن يكون الإسلام ثالث الأديان التوحيدية بل ديناً محليَّاً مثل ديانة المغول. الفلسطينيون هم حواريو محمد وأبلغُ من يستطيع بيان جمالِنا الروحي والأخلاقي. بدون الفلسطينيين وبدون دولةٍ فلسطينية سوف تنقرِضُ الدول العربية”.

الرئيس أردوغان.. هذا العملاق الأتاتوركي، كان حاذقا جدّا عندما أراد أن يصنع من جامع آيا صوفياً “قُدسا” تركيَّة، في محاولاته السابقة لإعادة النفوذ الذي بات مُتعارفا وصفهُ بـ”العثمانيَّة الجديدة”. مصطفى كمال أتاتورك كان بدوره أردوغانيا ومُحمَّديا إستراتيجيا، عندما استعار وبتصرُّف حديث الرسول العربي عن معنى العربيَّة في تعريف التركيَّة “كُل من تحدَّث التركية وعاش في تركيا وقال أنا تركي فهو تركي”! أمّا المفتي أمين الحسيني ورغم حظِّه السيء مع الأنظمة العربية، قدَّم بدوره نُسخة صحية عن القوميَّة العربية مفادُها “توحيد السياسات الخارجية والدفاعية”.

الحركات الدينيَّة في المشرق العربي، والمتواجدة في مناطق أُخرى من العالم، عليها أن تفهم في ما يخصُّ فلسطين والأنظمة العربيَّة، بأنها إن وصلت إلى سدَّة الحُكم فستكون نُسخة أسوأ من الحاليَّة لأنها بلا تاريخ حُكم حقيقي، وعلى الأنظمة العربيَّة أن تفهم بأنَّ هذه الحركات جهاز استشعار ممتاز لرؤية نتائج الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروة وإهانة كرامة الإنسان العربي، لذا أجِدُ بأن التعامل مع هذه الحركات وغيرها من التيارات السياسية العَلمانية كأجنحة للأنظمة العربيَّة، والسماح لها بممارسة سُلطة حقيقية وكما هي التجربة المغربيَّة نقطة انطلاق جيَّدة، وإذا لم يعجبهم هذا المثال العربي فعليهم بالنموذج الصيني، إذا لم يستسيغوه لملوحتِه الشيوعيَّة فعليهم اتباع أسلوب الحوارات، المُتجذِّر في سياسة مسقط مع نُخبِها وقواعِدِها الاجتماعيَّة وذلك أضعفُ الإيمان للبدء.

مسار عبد المحسن راضي
كاتب وصحافي وباحث عراقي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه