اليوم التالي لغزة مصريا
بعد الحرب على غزة سيكون قد تلاشى جزء رئيسي من قوة حماس التي عانت منها مصر في وقت من الأوقات بسبب دعمها للإرهابيين في سيناء لكنها روضتها وطوت معها هذه الصفحة.
البحث عن حل يرضي الجميع
كثر الحديث في دوائر مختلفة عن اليوم التالي لانتهاء العدوان على قطاع غزة، وقدمت إسرائيل رؤية ملتبسة تؤكد حيرتها، وعرضت الولايات المتحدة خطوطا عريضة لما يجب العمل عليه لاحقا تدعم ارتباكها، وصاغت أوروبا سيناريوهات لا تزال تدرسها.
ووضعت السلطة الفلسطينية شرطا واضحا لممارسة مهامها في القطاع بعد الحرب وهو أن يكون دورها ضمن عملية تسوية سياسية جادة، بالتالي تناثرت الرؤى وتبعثرت خرائط إدارة غزة بعد الحرب ولم يتم الاستقرار على نموذج منتج.
ظهرت وسط التصورات والتوجهات والنماذج المتداولة تلميحات وتصريحات من جهات متباينة حول دور للقاهرة في إدارة غزة ضمن صيغة منفردة باعتبار أن القطاع خضع سابقا للإدارة المصرية، أو في سياق حل جماعي يأخذ شكلا إقليميا ودوليا، وجرى إرسال إشارات عبر قنوات ومضامين عديدة للتمهيد لأي من الطريقين.
جاء الرد المصري في الحالتين بالرفض وعدم الاستجابة لإغراءات أو رضوخ لضغوط، فلا توجد رغبة لممارسة دور منفرد يفضي إلى صدام مع الشعب الفلسطيني وتبدو القاهرة كحارس بوابة أو أداة لحفظ أمن واستقرار إسرائيل، حضرت على ظهر دبابات ومدرعات وعلى جسد آلاف الضحايا، أو تشارك ضمن قوات دولية منتقاة من بعض الدول، لأن الإدارة بأي من الصيغتين تعني ترحيل البحث عن تسوية نهائية.
مصر تمسك بتسوية جادة للقضية الفلسطينية. تسوية لا تجري وراء سراب أو طموحات بعيدة عن الواقع ينطلق من خوف أن تعود القضية إلى الجمود، وتفقد النشاط الداعم لإيجاد حل يوقف نزيف الدماء
نجحت مصر في تقويض خطة إسرائيل بشأن توطين سكان غزة في سيناء، وأقنعت بها دوائر غربية عدة، في مقدمتها الولايات المتحدة التي أكدت رفضها لذلك وأعلنت صراحة رفضها لأي ترحيل قسري، وتمكنت دبلوماسية القاهرة من التعاون مع قوى إقليمية ودولية أسهمت في كسر جبل الممانعات الإسرائيلية لدخول المساعدات الغذائية والإغاثية والوقود إلى غزة.
تتعامل مصر مع الحرب ومساراتها بقدر كبير من الحكمة والرشادة والحذر، بما يقلل تعرضها لضغوط أو يجعلها مضطرة إلى القبول بها لأسباب اقتصادية متأزمة أو يقودها إلى القيام بدور عسكري مباشر والانخراط في الحرب، وتحاشت كل الطرق التي تقود إلى هذا المسار وحافظت على توازناتها وبدت دولة يمكن التعويل عليها في المستقبل.
على الرغم من التوقعات الصادمة والحسابات القاتمة التي ظهرت مع الأيام الأولى للحرب وذهبت في حينه إلى أن مصر الخاسر الأكبر فيها، غير أنه بعد مضي نحو ستة أسابيع ربما تكون الأكثر ربحا في المنطقة، ويمكن أن تساهم بدور محوري في تحديد مصير غزة، لأن غالبية رؤاها حيال التعامل مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني أخذت تحظى بتقدير بأثر رجعي، حيث تبين أن نظرتها لتجاوز القضية الفلسطينية وغياب التوصل إلى تسوية عملية تنطوي على درجة عالية من الصواب.
تيقنت دول غربية أن إسرائيل لن تنعم باستقرار لقدرتها فقط على عقد سلسلة من اتفاقيات السلام مع دول بعيدة عن مركز الصراع ولم تجتر مراراته، وهو ما تحفظت عليه القاهرة ونأت عن المشاركة في هذا التوجه، وتعززت رؤيتها مع انفجار بركان غزة، لذلك فاليوم التالي لانتهاء الحرب قد يكون مكملا للأيام التي سبقتها وفيها نصحت مصر من يهمهم الأمر بحسم، وبعثت برسائل إليهم ولم يتم الإنصات لها جيدا، دارت حول ضرورة عدم تجاوز القضية الفلسطينية والسعي لاستعادة الزخم السياسي.
تقتنع القاهرة منذ زمن بأن الفراغ السياسي، وعدم وجود بارقة أمل لعملية سلام قابلة للاستمرار، سوف يشجع من يتبنون منهج المقاومة على الجانب الفلسطيني على سده، ومن يؤيدون خيار البتر على الجانب الإسرائيلي على التقدم لشغله، ويتحصل كلاهما على حضور قوي وتأييد شعبي يتصاعدان تدريجيا، وقد لعب هذا التوجه دورا في قهر أسطورة إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، ومأساة غزة وتوابعها بعدها.
اليوم التالي لحرب غزة مصريا سيكون مرحبا به فلسطينيا، لأن قوامه تطبيق قرارات الشرعية الدولية والعمل على تهيئة الأجواء لإعلان دولة تتوافر لها مقومات طبيعية تساعدها على الحياة، لكن هذه المبادئ العامة لن يتم الترحيب بها إسرائيليا وسوف تظهر عوامل مقاومة قاسية لها من أجل وأدها مبكرا، وقد يتم تقبل ما عرضته أو تعرضه القاهرة أوروبيا وأميركيا على استحياء.
مصر تتعامل مع الحرب ومساراتها بقدر كبير من الحكمة والرشادة والحذر، بما يقلل تعرضها لضغوط أو يجعلها مضطرة إلى القبول بها لأسباب اقتصادية متأزمة أو يقودها إلى القيام بدور عسكري مباشر والانخراط في الحرب
تكمن المشكلة في التعامل مع حرب غزة في الانحياز الغربي السافر لإسرائيل، ما يجعل معظم التحركات الأوروبية والأميركية خاضعة لما يحويه التأييد القوي لها، فإذا قبلت بعض الدول بحل الدولتين لدواعي الحرب والمأزق الذي أفضته إليه، فقبولها لا يشكل وعدا بإمكانية تطبيقه على الأرض وستحاول التنصل منه عندما تهدأ العاصفة الحالية إلى أن تظهر حلقة جديدة من حلقات المقاومة الفلسطينية والتقتيل الإسرائيلي.
يؤدي غياب التسوية إلى تكرار المحرقة الراهنة، ومهما اعتقدت إسرائيل أن قوتها قادرة على اجتثاث حماس من جذورها، فالمقاومة خُلقت قبل أن تظهر حماس، ومارستها ولا تزال تمارسها حركات فلسطينية متعددة، وهو ما تدركه القاهرة ويجعل نظرتها للأمر مختلفة عن غيرها، فالخبرة المصرية من خلال دورها في الحرب والسلام أوصلتها إلى ضرورة اللجوء إلى الحل السياسي، والذي يمنح فرصة للأجنحة المعتدلة فلسطينيا وإسرائيليا للبروز.
بعد الحرب على غزة، سيكون قد تلاشى جزء رئيسي من قوة حماس العسكرية التي عانت منها مصر أمنيا في وقت من الأوقات بسبب دعمها للإرهابيين في سيناء، لكنها روضتها بعد ذلك وطوت معها هذه الصفحة، وبقدر ما تسببت لها في معاناة داخلية، بقدر ما خففت عنها عبئا خارجيا، فانهماك الحركة في مقاومة إسرائيل شغلهما عن القاهرة، فالأولى تخلت عن مناكفاتها والثانية خفضت تركيزها على مصر كأكبر دولة عربية، بل فتحت لها الطريق عمدا لتطوير دور جيشها في سيناء.
يعتبر البعض في مصر أن ضعف حماس عسكريا يشكل ضعفا لقوة جماعة الإخوان المصنفة إرهابيا في مصر التي تنتمي إليها الحركة أيديولوجيا، بينما التطورات المقبلة يمكن أن توفر لإسرائيل سيطرة كبيرة على الساحة الفلسطينية، فعندما تستعيد حماس قوتها أو تظهر حركة أخرى تمارس دورها قد تحدث تحولات كبيرة في المشهد الإقليمي لا تصب في صالح الفلسطينيين.
تمسك مصر بتسوية جادة للقضية الفلسطينية. تسوية لا تجري وراء سراب أو طموحات بعيدة عن الواقع ينطلق من خوف أن تعود القضية إلى الجمود، وتفقد النشاط الداعم لإيجاد حل يوقف نزيف الدماء، والذي سوف يترك جرحا أخلاقيا غائرا لدى المجتمع الدولي، وما لم يستيقظ على حل واقعي يتسق مع جانب معتبر من القرارات التي أصدرها مجلس الأمن سوف نشاهد مجازر إسرائيلية تتكرر على فترات متقاربة.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري