ألبوم صور
رابعة الختام
انسكبت قهوتي على ألبوم الصور خاصتي، فيداي المرتعشتان من ذكرياتي البعيدة وما جرجرته من أحزان تتوارى، ثم تعود، ولا تدفن مطلقا، لم تقويان على حمل الألبوم والفنجان والأحزان، رفقا بقلبي.
تقافزت مسرعة لعلني أنقذ الوجوه التي لن تعود لها براءتها وسنوات صباها مرة ثانية، من ذرات البن القاتمة ورذاذه المتاطير، توقفت أناملي على صورة تجمعني بصديقات الجامعة، كل واحدة منهن حفرت في قلبي ذكريات لا تنسى، منها السعيدة بطعم الفرح ولون الشباب الزاهي وقلوب لا تحمل إلا الحب لبعضها البعض وللحياة، والبراءة الشفيفة، ومنها الحزينة بفراق إحداهن لسفر طويل مع زوجها، أو حادث مروري أليم انتهى بوفاة صديقتنا نادية.
غلبتني دموعي وأنا أحاول منع القهوة من إفساد ذكرياتي، والعبث بوجه الزمن، كانت أحلامنا بريئة وأخلاقياتنا راقية لا نتشاجر حتى نتصالح، فلا يظلم الليل على قلوبنا إلا وقد تصافت من مشاكلها، نراعي مشاعر بعضنا البعض ونحترم حتمية الخلاف، كانت أحلامي بسيطة وطموحاتي لا تتخطى حاجز الكتب، والورقة والقلم، القراءة والصداقة متع مجانية. خمسة عشر عاما تفصلني عن اللقطة الأولى في ألبوم الصور.
أين اختفت صديقتنا ابتسام؟ أربع سنوات توزع الابتسامات على الجميع، مصدر سعادة لكل من حولها، رقيقة المشاعر، ممشوقة القوام، تتقافز للإمساك بأحلامها كطفل يجري خلف عصفور صغير في حديقة، عاشقة للأناقة، تحفظ الأغاني بذاكرة فولاذية رغم تعثرها الدراسي، كيف لعقلها الذي لا يستوعب المواد الدراسية أن يحفظ هذا القدر الكبير من الأغاني الحديثة والقديمة، تغني بمرح عجيب رغم صوتها المزعج، حشرجة وبحة تكسب غناءها خشونة، ولكنها تغني لتفرح، ونفرح معها، لا تطربنا ولكنها تسعدنا، هكذا هو حب الحياة. منذ عامنا الأول بالجامعة وهي تردد: وعدت والدتي بالحصول على شيئين في منتهى الأهمية، المؤهل الجامعي، وعريس! وفي العام الدراسي الثالث استطاعت تحقيق هدفها الثاني، أما الهدف الأول فقد استغرق بعض الوقت.
ساحرة في حبها للحياة والمرح، وشغفها بأن تعيش كل جديد وممتع، جسدها الرائع وجمالها الأخاذ لا يشيان بأن هذا الصوت (….) يخرج عن صاحبته، جاءتنا ذات صباح سعيدة مبتهجة قائلة بمرح “أخيرا تمت خطبتي ولكن بشرط جوهري وهام، حيوي ومفصلي، أن أظل صامتة أمام الغرباء، وانفجرنا في هيستريا ضحك..”.
انقطعت سبل اتصالي بها بعد سفرها لدولة خليجية مع زوجها، وعبثا حاولت العثور على وسيلة اتصال تجمع شملنا مرة أخرى، حتى مواقع التواصل الاجتماعي فشلت في أن تكون وسيلتي للتواصل معها، خاصة في ظل نظرة المرأة إلى أن اسمها عورة تضاف إلى مجموعة عورات كثيرة تحيط بها في مجتمعاتنا العربية، وفي ظل انتشار مواقع بأسماء (طائر الليل الحزين، وأسيرة الأحزان، وأميرة القصر المنيف، وهذه الأسماء العجيبة للتستر خلفها وإخفاء اسم المرأة العورة).
كانت مواقفنا الحياتية البسيطة تصنع الذكريات دون أن ندري، انتظارنا في موقف سيارات الأجرة وضحكاتنا على المارة أو ضحكاتهم علينا، نصنع الغد ونكتب تاريخا قادما.
لست في العمر الذي تتزاحم فيه الذكريات على مخيلتي، ولا وقتي بالفراغ الذي يسمح لي بأن يمر شريط ذكرياتي كشريط السينما في أفلام الأبيض والأسود، ولكنها القهوة اللذيذة.
اصنعوا الذكريات بما يليق بحياة قادمة، وجوه تحمل الطزاجة والحب والتسامح، قد نمضي في مشوار الحياة أو تمضي بنا الأيام، ولا نخلف وراءنا غير الذكرى، فاجعلوها سعيدة مخصوما منها كل ما يحزننا، ويقضم من سعادتنا وأعمارنا، قد تتحول الحياة في يوم ما إلى شاشة عرض كبيرة بزواية الرؤية الحقيقية من جميع الاتجاهات، فما المانع أن تكون كل المشاهد براقة، زاهية، بلون المرح والحب، حتى نحافظ على ألبوم صورنا من كل ما يفسده حتى وإن كانت ذرات القهوة.
كاتبة مصرية
sarab/12