أثر عابر
شرف الدين ماجدولين
تعلمنا الرواية واللوحة، في تطواحهما الدائم بين الفضاءات والوجوه والألوان والطبائع، ألا ننتمي إلى أي مدينة، حتى لو كانت لنا، أي نمتلك فيها شيئا ما، حتى لو احتضنت مقابرها أرواحا عزيزة، توحي إلينا تدريجيا أن الانتقال قدر المعنى، ومن ثم فإننا، عزيزي القارئ، قد ننتمي إلى ذاكرتنا المدنية وإلى أحاسيسنا الملتبسة تجاه مدن نحلم بها، أو عبرناها خفافا، بقدر انتسابنا إلى منازلنا و إلى سياراتنا فقط تلك التي تنتشلنا من أن نكون دوما هنا أو هناك، وتمنحنا الإحساس بأننا لا نفقد موطنا يدين لنا أو ندين له، وتضعنا مجددا وجها لوجه مع عشرات المدن التي سكنتنا صورها في أعمال دوس باسوس وهنري ميلر وأورهان باموق ولوحات أدوارد موران وصامويل كار وأدوارد هوبر…
وحين تعيش بين مدينتين، مدينة للبيت ومدينة للعمل، تصبح السيارة الفضاء الأوحد لحالاتك الحيادية، ولهويتك الخالصة، فيها تكون ذاتك التي تنسى لساعات الطريق وجودك الاجتماعي.
طبعا يتكرر هاجس أن حادثا بسيطا كفيل بإنهاء كل شيء، كما يتكرر التغلغل في مونولوغ داخلي تتكلم فيه بصوت مرتفع أحيانا وكأنك مجنون، وفي النهاية تصبح مستمعا جيدا للراديو، أي كائنا من ستينيات الزمن الجميل، خاضعا لأهواء الأثير، وتتعلم مجددا تذوق أغنيات نسيتها، والإنصات لأخبار محلية ما كانت ستنقلها الفضائيات، ثم الاستماع أحيانا لحوارات أدباء وفنانين أصدقاء…
وتقول بينك وبين نفسك، عجبا هذا فعلا فلان يتكلم في الراديو، كنت أظن أن الراديو شيء منقرض.
لحظة الوجود خارج المحل الدائم والثابت، في ما بين المدن، مع صوت لا صورة له، يخفف من حدة الارتباط بالقار الجلي، وبالصور التي تمنح أحاسيس الوجود الطاغي، الراسم لملامح الهوية المقيمة العاطفية تجاه الوجوه والخرائط والتقاسيم.
السيارة والراديو معا يمجّدان الغياب والعبور، يعليان من شأن الأثر الذي هو الأساس في إنتاج المعنى، في الراديو لا نرى المكان ولا الشارع ولا المعمار ولا الحدث ولا الكتاب وإنما نستمع إلى ما يروى عنه، أي الأثر المترسب والمنقول عبر وسيط إلى وعي الآخرين.
لهذا في كل تلك الأعمال الإذاعية التي أنتجت لمسرحيات وأعمال روائية لم تجذبنا أجساد ولا وجوه ولا ألوان ولا ضياء، وإنما نبرات أصوات قادمة من قرار عميق، تلك التي تحتمل أن تكون لعشرات الأجساد أو لمجرد أقنعة.
تماما مثلما يمنحك الانتقال بين المدن ميزة التخلص من عواطف الارتباط بالعوالم المستأنسة للمطاعم والمقاهي والمكتبات فتحتفظ فقط باستعمالاتها، وبالروح المتبقية من أصداء المترددين عليها، الثابتين أو العابرين مثلك، بحثا عن معنى عابر.
كاتب مغربي
سراب/12