الصحافة تتضاءل، الإعلام يتضخم
كرم نعمة
يتسنى لي يوميا مطالعة صحيفتي الغارديان والتايمز البريطانيتين، بوصفهما ممثلتين للخطاب الصحافي عالي المسؤولية، وأرى أنهما مثالان عاليان أيضا في الصناعة الصحافية، مثلما يتسنى لأي قارئ عربي اختيار الصحف في بلاده أو من بلدان أخرى كي يتخذها مثالا على الصناعة الصحافية.
لا أطالع هاتين الصحيفتين من أجل متابعة الأخبار، كما بات يفعل غيري منذ سنوات، فالأخبار تٌقرض اليوم أينما نكون، في الحافلة أو الشارع والمقهى، إنها تدور بحركة سريعة وفي جميع الاتجاهات على هواتفنا المحمولة، ترفض التأخر، يشترك في صناعتها الصحافي والمواطن الصحافي بفضل الأجهزة الذكية والتجربة الحية التي يوفرها عصر الإنترنت، ولهذا ليس مثيرا أبدا أن يواجه الإنسان اليوم الآخرين بخبر لم يسمعوا به، لا أحد يفتح فمه مندهشا على وقع خبر!، الأخبار صارت تُستهلك وتٌرمى في سلة المعلومات الهائلة. ولهذا أيضا صارت مهمة تدوير الأخبار بالنسبة إلى الصحف بالية وغير مجدية، ثمة ما هو أكثر من الخبر ننتظره من الصحف.
الإعلام بوصفه عربة كبيرة وجميلة تحتوي دائما على خيارات مفيدة ومتجددة من التلفزيون والمنصات الرقمية والإذاعات والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي… إلا الصحافة فتكاد تكون في مؤخرة تلك العربة المتحركة وفي صندوق صغير لم يعد يغري بالمرور عليه.
الإعلام يتقدم، لكن الصحافة لا تتحرك في عربته بنفس السرعة، الصحافة تدور على نفسها من دون أن تجد الحلول الدافعة، ولهذا توقفت المئات من الصحف عن الإصدار، وواقع الصحافة في العالم اليوم أنها تعيش في سوق مريضة كما يطلق عليها البريطانيون.
عندما اخترت الغارديان والتايمز، فلأنهما مثالان لصحافة راسخة من مئات السنين وبدرجة حساسية عالية، لكنهما أيضا مثالان واقعيان لأزمة الصحافة المتصاعدة.
لا أجد فيهما أكثر مما أجده في منصات أخرى عن تدوير الأخبار بطريقة أو بأخرى، الصحيفتان بوصفهما ممثلتين لمفهوم العقود الحرة بامتياز، لم تتحركا أيضا بمساحة لصناعة المحتوى المتميز الذي يشد القارئ وبقيتا أسيرتي الخبر.
لا نشك بأن الأخبار صناعة، مثلها مثل أي صناعة أخرى تحتاج إلى التطوير وليس دق المسمار الأخير في نعشها، لكن مثل هذه الصناعة لم تجد بعد الطرق المستدامة والمغرية التي تجذب إليها القراء.
أشعر بالخيبة عندما لا أجد صباح كل يوم في تلك الصحيفتين ما أتوق إليه، لأنني مثلا أسير شريط الأخبار طوال الوقت بحكم عملي الصحافي، وليس ثمة أكثر من تلك الأخبار.
ما ينتظره القراء الأوفياء مساحة تحليلية مضافة إلى الخبر تعرض لأراء متقاطعة أو متوافقة حوله.
ثمة مهمة صحافية لشرح الأخبار وعدم الاكتفاء بتجديدها ومتابعة تداعياتها، سبق وأن طرقها الثنائي ميليسا بيل وعزرا كلاين في موقع “فوكس دوت كوم” الذي انطلق قبل عام.
وميليسا وشريكها عزرا احترفا صناعة الأخبار في صحيفة واشنطن بوست وعلمتهما التجربة البحث عما وراء القصة الإخبارية، وفكرتهما الجديدة ترفع مهمة شرح الأخبار من الهامش إلى المقدمة. وسبق وأن تحدث غلين غرينوالد عن إعادة صناعة الأخبار عندما أطلق موقعه الرقمي الجديد “فيرس لوك ميديا”.
فقد استعان غرينوالد الذي ترك العمل في صحيفة الغارديان بعد أن أسهم في نشر وثائق سنودن حول التجسس الأميركي على العالم، بعدد من الصحافيين الماهرين لمساعدته، في محاولة لإعادة اختراع الصحافة في العصر الرقمي، بدءا من التسلسل الهرمي التقليدي لغرف الأخبار، والتركيز على الأزمة الاقتصادية والآلية السياسية التي تحيط بها، والاعتماد على تعليقات القراء للتخلص من “تحجر” الصحافة والتوقف عن التحدث للقراء بشكل سلبي. وبعده رأى جيمس هاردينغ مدير هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أن صناعة الأخبار بمحتوى مختلف باتت حاجة المستهلك بما فيها المنصات التي سوف يستخدمها الناس لاستهلاك الأخبار ونوع المحتوى الذي ينبغي تسويقه.
هؤلاء يدركون كما تدرك إدارة الصحف أنهم جوهر الصحافة وليس على هامشها، فتقديم الأخبار بمحتوى قصصي متميز ليس ببساطة ما تعرضه موسوعة ويكيبيديا، وليس افتراض أن الجمهور لا يفهم الأخبار.
المحتوى الصحافي المتميز كما أجمع عليه خبراء الإعلام في قمة أبوظبي الأولى قبل سنوات، مبني على فكرة تقديم صحافة مختلفة في وقت حان للصحف أن تتغير عما كانت عليه، لأن ثمة قارئا موازيا يبحث عن الجودة اليوم، فيما هناك أموال تستثمر في الإعلام الرقمي أكبر مما كان عليه الأمر سابقا.
سراب/12