أجساد وأقنعة
كثيرا ما يطرح السؤال بصدد كل محكيات الأسر الأنثوي، لماذا الصمت في سياق يفترض الصراخ؟ لماذا الصمت إزاء التعذيب والإهانة والاغتصاب؟ الراجح أن الصمت هنا ذريعة لعدم الانزلاق إلى تأويل كلامي أهوج؟
قد لا يحسن تشخيص الرزء النفسي، وهو ربما حداد رمزي على استبدال الحجاب التقليدي للجسد (اللباس الذي يمزقه المغتصب) بحجاب الجدران والأسر، حيث يضحى الجسد دون مأوى يداري فضيحة كشفه القسري، ولذا تغدو الشهادة في كثير من الأحيان مخترقة بالرمزي، تلتجئ فيها اللغة، غالبا، إلى المجاز والكناية، للملمة شظايا الكيان المهشم، حيث أن الكلام المباشر يغدو مستحيلا حين يكون بصدد تجربة الغامض فيها أكثر من الواضح والمفهوم.
تختصر زنزانة الجسد الخرساء الحياة بشساعتها، في كتابات وشهادات سجينات الحروب العرقية والطائفية والإبادات الجماعية والحروب التي تشنها أنظمة فاشية على شعوبها، مخترقة أعطافها.
فيستحيل الإضمار وكتم الألم والاحتجاج، إلى خطاب مكثف يتجاوز الدوال المستهلكة والعاجزة عن حمل المهالك، يذكرنا بذلك الوجوم الصاعق الذي يجلل شهادات الأسيرات والمختطفات في الحرب اللبنانية وحروب الخليج، وشهادات الفلسطينيات، والكرواتيات، والبوسنيات، والنساء السود في الأنظمة العنصرية، وغيرهن…
والذي يبدو أبلغ من الكلام، قائلا كل شيء. في الأسابيع الأخيرة عرض فيلم وثائقي للفرنسية مانون لوازو بعنوان “سورية: الصرخة المكتومة”، ينضاف إلى عشرات الوثائق البصرية التي تدولت عبر سنوات التراجيديا السورية، والتي سجلت التجربة الجحيمية التي عاشتها المعتقلات في سجون نظام الأسد.
ولعل ما يلفت النظر في البوح الفاجع، العبارات المفعمة بصيغ التساؤل، الطافحة بالمفردات الدالة على “انعدام الفهم”، و”عسر التواصل” بين الضحية (الأنثى) والجلاد (المغتصب)، ليس لأنهن لا يتكلمن اللغة نفسها أحيانا فقط، بل أساسا لأن الضحية تتحول إلى جسد مفارق لا يتوفر على ذات مستقلة، هو بالأحرى امتداد لكيان أصل، هو الرجل (الزوج والأخ والقريب..) الهارب من قبضة المخابرات.
ولا جرم، بعد ذلك، أن يتحمل هذا الجسد البديل وزر الجرم الافتراضي، شيء يذكرنا برمزية الأسطورة البدئية للبشرية، حيث تخلق حواء من ضلع آدم، ثم تحمل عنه وزر الخطيئة إلى الأبد.
في مواضع عديدة من الأفلام الموثقة لهذه الشهادات يبدو الصمت مقابلا للتدفق الكلامي الغزير، كالظل بالنسبة لمساحات الضوء المنهمرة، وكيقظة الوعي بعد انتكاسة نسيان عابر، تنطلق العبارات الحارة المريرة المضوّعة بالألم، دونما تخطيط أو تمحل تعبيري، وكأنما في استرسالها السريع سعي إلى التخلص من الفجيعة التي أثقلت الذاكرة في اليقظة كما في الحلم، محاولة لملمة أشلاء “الأنا” العميقة التي كفت عن منح الشعور بالهوية والتوازن الشخصيين، والتواؤم مع الجسد المهدود، الذي حوله الجلاد إلى لحاء جامد شوهته الندوب. ففي النهاية ما يتمناه الصوت المنبعث مما تبقى من قناع للجسد المنتهك، هو التحرر منه فقط.
كاتب مغربي