أسواق القيم
التركيبات التشكيلية الموغلة في الزيغ الأسلوبي للفن المعاصر، تتجلى في أغلبها خارج منطق السوق، قد تشكل موضوع معرض فني لكن مصيرها في النهاية لن يكون إلا في المزبلة.
في حفلات توقيع روايات باولو كويلو لا توحي الصفوف بالانتهاء
في حفلات توقيع روائيين من عيار باولو كويلو وهاروكي موراكامي ومارك ليفي، ممن يوصفون عادة بالجماهيريين، وأصحاب أعلى المبيعات، لا توحي الصفوف بالانتهاء، كما أن حجز النسخ مسبقا ودفع ثمنها ببطاقات الائتمان على الشبكة باتا أمرا مألوفا، إنها أحد ملامح تحول كتابة الرواية إلى عتبة للثراء الفاحش، بعد بيع ملايين النسخ منها، وتحويلها إلى فيلم سينمائي أو سلسلة تلفزيونية.
وبتعبير أدق هي إحدى صفات تحول الرواية إلى “سلعة”، في مجتمعات استهلاكية تحدد فيها قيمة الأشياء بأرقام مبيعاتها. لهذا لم يكن غريبا أن تلتجئ المطابع في العواصم الغربية الكبرى المنتجة للروايات إلى طحن فائض الإنتاج بعد انتهاء الموسم الثقافي، لتخلى الرفوف للإصدارات الجديدة. إنها العواصم نفسها التي تحتضن أسواق الأعمال الفنية ومزاداتها، حيث تمتزج رغائب امتلاك التحف الجميلة، والذخائر الغالية، بمآرب المضاربة وغسيل الأموال والتهرب الضريبي، ويبدو الاستثمار في ذخائر تاريخ الفن جنبا إلى جنب مع الاستثمار في الذهب والنفط والعملات.
ويخيل إلي أن أحد الأسباب الرئيسية لذيوع الرواية ورواج أنواعها وانتشارها، ليس أنها تحقق مآرب انقلابية عظيمة على الأمد البعيد، كأن تسهم في تغير العالم حولنا مثلا، أو أن تحسن معارفنا بالمجتمع والتاريخ، وبالمدن والحضارات، وبالنفس البشرية؛ أو لأنها تسهم بشكل ما في تحويل استعمالات اللغة ومفرداتها ومجازاتها، ولكن لأن نصوصها الجذابة والآسرة تملأ فجوات حياتنا اليومية.
وبتعبير أكثر دقة، فإن الرواية مهيمنة لأنها تحسن تبديد وقتنا القاتل، الذي لا ندري ما نفعل به، وتملأ ما لا يُملأ من لحظات الوجود، خارج مطحنة التواصل مع الآخرين. تلك الوظيفة التي سرعان ما تحولت إلى قيمة تباع وتحقق ثروات طائلة، تماما مثلما أن وظيفة اللوحة أو المنحوتة الفنية اليوم هي الادخار وتنويع الأصول المملوكة، قبل تزيين القصور والمؤسسات السيادية والمتاحف، وقبل أن تتحول إلى ذاكرة أو علامة أو مجاز، لهذا يكاد يستعصي علينا أن نتخيل رواجا للوحة أو رواية خارج معيار الفتنة والندرة، فلا يمكن أن نملأ الوقت بالعراك مع الظلال الثقيلة والأساليب المنفرة، ولا أن نؤثث قصرا عريقا بمجموعة منهكة للنظر والأعصاب.
وخارج منطق الضعف والقوة التي تحول التجارب إلى وجهات نظر فكرية، يجب أن نتمثل الأعمال هنا بوصفها تشكّلا خالبا، لهذا يبدو لي التجريب السردي الحافل بالاختراقات السردية واللغوية والتخييلية خارج منطق الأثر الروائي، كما أن التركيبات التشكيلية الموغلة في الزيغ الأسلوبي للفن المعاصر، تتجلى في أغلبها خارج منطق السوق، قد تشكل موضوع معرض فني لكن مصيرها في النهاية لن يكون إلا في المزبلة، جنبا إلى جنب مع غبار الروايات التي آن وقت اختفائها من رفوف المكتبات.
كاتب مغربي