أكلة الأرصفة.. في وداع مدينة اسمها القاهرة

بقلم سعد القرش تشرين2/نوفمبر 27, 2018 1364

أكلة الأرصفة.. في وداع مدينة اسمها القاهرة
في غياب القانون والاستهانة بالذوق العام تتوالى تعلية الأرصفة، ليكون عبورها وصعودها معيارا للفتوة. ولن يسأل المتعبون بعد فوزهم بعبور آمن للأرصفة عن قرارات عشوائية منها إزالة خط المترو التاريخي.
فوضى الأرصفة تؤكد غياب العقل المدير للدولة
مَن نشأ في بيئة سويّة سيجاهد إذا زار القاهرة، لكي يصون أعصابه من الانهيار. هنا جهاد التحرش والفضول والصخب والشجار لأتفه الأسباب، ونيل حقوق مستحقة أو مغتصبة بالغلبة الشخصية والسلطة الوظيفية في غياب للقانون.
هنا تفقد المدينة شخصيتها التي تبدأ من الرصيف، ومن الرصيف، أيضا، يسهل عليك اكتشاف هيبة الدولة أو حضور البلطجة، وتكفي جولة خاطفة لترى دلائل إهمال أو اغتصاب تتعرض له الأرصفة، بداية من الأحياء التاريخية والشعبية، إلى أقبح رصيف مصري أمام القنصلية الإيطالية، وليس انتهاء برصيف التهمته وزارة الأوقاف المعنية بشؤون المساجد، وخطبائها المشغولين بإقناع المسلمين بالإسلام.
يمكنك أن تفرّق بين سلوك بدوي يلخصه صراع على بئر ماء، وغياب مثل هذا الصراع وعدم الإحاطة بمصطلحاته ودلالاتها في مجتمع نهريّ يجهل أهله معنى “تسميم الآبار”، ولا يبالون بقول حافظ إبراهيم وغناء أم كلثوم “أمِن العدل أنهم يرِدون الماء صفوا وأن يكدّر وردي”.
تتسم المجتمعات البدوية والريفية بالبساطة ورحابة الأماكن وسعة الصدور، فلا تحتاج إلى قوانين تنظم المرور ولكن هذه القوانين تمنح المدينة ملامحها، وأولها الرصيف الذي اكتشفته ذات صباح وأفتقده الآن.
وكانت “سمنود” أقرب مدينة إلى قرية طفلٍ كنته، وفي سن الخامسة تقريبا، وجد نفسه محشورا في سيارة غير آدمية، قبل الشروق، فلم يشعر بالبرد إلا بعد الهبوط على الإسفلت، حافي القدمين. وقف أبي أمام رجل يفترش الأرض، وطلب لي حذاء من البلاستيك. مددت قدمي اليمنى، وبصبر جميل قال بائع مدّ يده بالفردة اليسرى “يا ابني، الجزمة مخلوفة، هات رجلك الشمال”، خجلت وقلت في نفسي: متى يا إلهي أكبر بقدر يجعلني أميز القدم اليمنى من اليسرى؟ وفي ما بعد، اكتشفت أن المكان الذي احتله الرجل اسمه “الرصيف”، وأنني سأتخذه معيارا للحكم على رقيّ الأمكنة.
رحابة الأماكن والصدور تجسيد لحالة الوفرة، ففي القرى والصحارى لا يتصارع اثنان على أولوية المرور في طريق، أو الوضوء وري الزرع من النهر مباشرة، أو افتراش الأرض لبيع بضاعة.
تلك سمات مجتمعات تأسست تلقائيا من غير حاجة إلى تصميمات هندسية نظرية، ولا يوجد هذا التبسيط في المدن، حيث التركيب والتقنين والشجار على مساحات ضيقة تتطلب الانضباط والتنظيم واحترام هيبة الدولة. من هذا الصراع على محدودية الأشياء والمساحات يأتي الصخب والشجار وضيق الصدور والاقتتال أحيانا على الرصيف.
الأرصفة عنوان هيبة الدولة في مجتمعات مستقرة بالقانون. الأرصفة هناك ملك لكل أحد، وليست ملكا لأحد، هي نسق واحد، طراز هندسي تتكرر ألوانه وتكويناته الفنية، وترتفع عن الشارع بضعة ملليمترات، لأن لها حرمة، وتُمنع السيارات من الانتظار فوق الأرصفة، ولا يسمح لراكبي الدرجات العادية أو النارية باستخدام رصيف ولو خلا من المشاة، ومن العبث أن يفكر صاحب محل في مدّ واجهة عرض زجاجية إلى منتصف الرصيف.
والمجتمعات ذات القوانين الراسخة استبدلت رجال الشرطة بإشارات مرور تكفي للنيابة عن عصا الشرطة. وحين يكون القانون انتقائيا والفساد الشرطي والإداري مستأنسا، فلن تنتهي الفوضى بوجود الشرطة، من اللواء إلى جنود وأمناء مسلحين بدفاتر المخالفات رمز دولة الجباية، وربما بدأت بهؤلاء الفوضى.
وفي غياب القانون والاستهانة بالذوق العام تتوالى تعلية الأرصفة، ليكون عبورها وصعودها معيارا للفتوة.
ولن يسأل المتعبون بعد فوزهم بعبور آمن للأرصفة عن قرارات عشوائية منها إزالة خط المترو التاريخي، وكان يمر من شارع الجلاء أمام مؤسستي الأهرام وأخبار اليوم، وتم إلغاؤه مع الإبقاء على القضبان الحديدية، ثم أعيد تشغيله، ثم ألغي تماما ورفعت القضبان وجفت الصحف، وبعد 30 يونيو 2013 جرى التخلص من مترو حي مصر الجديدة، في أسوأ تمثيلات المحو الأبدي للذاكرة.
البلد الذي علّم العالم فن النحت على الجرانيت والديوريت، أشد أنواع الحجارة قسوة، لا يتزين ميدانه الرئيسي بتمثال، ولعل هذا مقصود ضمن مخطط تفريغ القاهرة بأن يخلو ميدان التحرير من الروح؛ فروحه إذا حضرت ذهبت الشياطين التي تنصرف إذا ذكر اسم الميدان حتى من دون ذكر لثورة 25 يناير 2011. ومنذ عهد حسني مبارك تحولت ميادين القاهرة إلى زنانين وحظائر بشرية، ترتفع أسوارها الحديدية حتى تضيع عشر دقائق في الالتفاف حول السور للوصول إلى النقطة المقابلة في الاتجاه الآخر.
الإساءة إلى نهر النيل بتلويثه بمخلفات بشرية وصناعية، مثلا، لا تسوّغ تجفيفه، وإنما توجب ردع المسيء بقوة القانون، وفي القاهرة يتم تجفيف الأرصفة بإلغائها؛ بحجة دواعي الأمن.
رصيف القنصلية الإيطالية في شارع الجلاء ومعه بضعة أمتار في خط يوازيه ممنوع على المشاة، والرصيف ونهر الشارع وجدار القنصلية عنوان القبح بطبقات الأتربة التي تتوحل بالأمطار، ثم تجفّ فتصير أتربة، ولو تمتع أحد بشيء من الخيال لجعل من هذا الحائط الكابي جدارية تشكيلية تلهم فنانين آخرين، بعد تراجع فن الجداريات بالقاهرة.
تقاس كفاءة الاحتراف الأمني بالقدرة على منع الجريمة، بدلا من اللجوء إلى سلاح العاجز وهو المنع والمصادرة ولو للأرصفة. ويمكن أن يتسع بطن شرِه لقضم الرصيف، فأي ضرورة أمنية تدعو وزارة الأوقاف إلى ابتلاع رصيفها؟ قرار أشبه بسيئة جارية؛ لاضطراره المشاة إلى السير في الشارع بين السيارات، وتعريضهم للحوادث، كما قطع رزق عجوز بكماء، كانت تبيع تذكارات من عاديات وعملات قديمة.
لم يضف الرصيف المنهوب إلى الوزارة إلا تشويها يؤذي العيون، ويذكّر بافتقار طلبة الأزهر إلى الإحاطة بطرف من فلسفة الفنون، لكي تلين قلوبهم للجمال فلا يجترئون عليه.
وليتهم يدرسون كتاب “من بعيد” لطه حسين، وكان مشاركا في مؤتمر للعلوم التاريخية ببلجيكا، في أبريل 1923، حيث اجتمعوا في كنيسة أثرية كبرى، هي كنيسة سانت جودول، ودعوا “لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ في لذة ومنفعة. خطبنا قسيس فلم يتحدث إلينا في دين المسيح”، وإنما في الآثار والعمارة، وناقش أثريين من ألمانيا وفرنسا عن الفروق بين العمارة في الدول الثلاث. وخطب في المؤتمر قسيس آخر “خطبة ليست بينها وبين الدين صلة”، وآلم العميد أن يقارن بينهم وبين رجال الدين في مصر؛ “لأن هذه المقارنة لا تسرهم”.
فوضى الأرصفة تؤكد غياب العقل المدير للدولة، وتطرح سؤالا من ثلاث كلمات: من يحكم مصر؟ انتهت لحسن حظي مساحة المقال، لأفكر أسبوعا في إجابة.
روائي مصري

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه