أفكار لا نكتبها
جلْب شرائح من الماضي وتوثيقها في نص متقدم على زمنها هو حل قد يكون مضمونا للفاعلية السردية في نص يتجه إلى الفن أكثر مما يتجه إلى الواقع كما حدث.
ازدحام الذكريات
الكثير من الأفكار التي تراود الكاتب لا يستطيع كتابتها مهما بلغ من النضج والتجربة والمراس وتبقى مدفونة في أسرار الكتابة التي لم يكتبها بعد.
هذه حالة معروفة عند جميع الأدباء لا سيما الذين يمارسون الكتابة الروائية وهم يختزنون الكثير من مشاهد الحياة القديمة والمتعددة، سواء أكانت من تجاربهم الحياتية أم من تجارب غيرهم في المجتمعات؛ لكنها لا تطاوعهم في الكتابة وتبقى مؤجلة إلى إشعاراتٍ أخرى، وقد لا تأتي لحظة كتابتها حتى زمنٍ طويل وقد لا تأتي إلى النهاية. وباعتقادنا أن الجميع مشمولون بهذا التوصيف عندما تتعسّر عليهم أفكار ماضية بالرغم من وضوحها واستكانتها في الذاكرة الشخصية.
وبالرغم من مرور أوقات متراكمة وأزمان متتابعة عليها وأحداث ومواقف ومتغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية، لكنها تبقى عصيّة على الكتابة، ولا يجد الكاتب منفذا لها حتى لو كرر محاولاته عددا من المرات. لكنها تبقى ممتنعة على أن تستقل بنص إلا في حالات نادرة جدا.
مع التجربة المضنية زمنيا يمرر بعض الكتّاب تلك المشاهد والصور في سرديات أخرى قد لا تكون على صلة مباشرة بالحدث السردي اللاحق، وقد تبدو ملصَقة إذا انتزعناها من السياق العام، لكن خبرة الكتابة تمنحها شيئا مهمّا من المنطق السليم كلاصقة طبيعية تؤدي دورا هامشيا أو تسد ثغرة معيّنة أو تعمل كديكور عادي ضمن سرد طويل يحفل بمثل هذه اللواصق المنتزعة من الماضي مع أهمية تحديثها ضمن الفترة الزمنية التي تُكتب فيها حتى تبدو كما لو أنها جاءت ضمن السياق السردي من دون معرفة مرجعيتها الماضية كتاريخ شخصي اجتماعي أو سياسي.
هذه اللواصق التي لا يعرفها القارئ ويجهل تضمينها هي أفكار متناثرة تحت مسمّيات الذاكرة والماضي والتجارب القديمة التي لم تجد فرصتها بأن تستقل في نص شخصي، لذلك توزعت بين النصوص اللاحقة كمشاهد سينمائية قد لا تكون لها صلة بالنص المكتوب سوى أنها موتيفات ورؤى التحقت بزمنٍ آخر كما لو هي استشراف مبكّر لسد ثغرات هنا وهناك بما يأتي من النصوص المتعاقبة، بل هي ربما نبوءات نصّية تقدمت على زمنها وحدثها وسرديتها التي جاءت في زمن آخر لا صلة لها به سوى أنها بقيت مشاهد عائمة على سطح الذاكرة.
بعد ربع قرن أو أكثر من المخزون الشخصي تطفح مثل هذه الموتيفات لتشكل علاقة ثانية مع نص لا ينتمي إلى زمنها في لحظة كتابة تاريخية متعاكسة، فتجد سبيلها إلى الكاتب ومن ثم إلى النص وبالتالي إلى القارئ كلُحمة غير منظورة قفزت من زمن إلى آخر وشكلت معه مشهدا مُحَدّثا قد يكون غنيا في لحظته المعاصرة بما يعطي النص روحا جديدة أو تأملا ينعقد في ذاكرة القارئ أمام نص كثير المشاهد التي انتمت إلى عصر الكتابة الآخر.
جلْب شرائح من الماضي وتوثيقها في نص متقدم على زمنها هو حل قد يكون مضمونا للفاعلية السردية في نص يتجه إلى الفن أكثر مما يتجه إلى الواقع كما حدث، ومن ثم فإن الاحتفاظ القسري بتلك المشاهد له صلة بذاكرة الكتابة وحدثها وديمومتها، مع ملاحظة أن الواقع قد ينجب مثل تلك المشاهد الآفلة أو ما يشبهها، لكن الانطباع الأول هو الانطباع الأخير كما يبدو، لذلك فإن كاتبا مثل ماركيز نجح كثيرا وهو يستحضر حكايات جدته وقريته الخيالية “ماكوندو” وما تضمنته من موتيفات عاشها الكاتب واستوعب تفصيلاتها وكتبها بعد أكثر من ربع قرن بما حفلت به رواية خالدة مثل “مائة عام من العزلة” والأمر يكاد يتجاور مع ما كتبه جيمس جويس في “عوليس” و”أهالي دبلن” حيث المدينة المكتظة بالأسماء والشوارع والشخصيات والعلامات الفارقة.
روائي عراقي