ألا تزال الهوية القومية ضرورية
فاروق يوسف
سيُقال إن التفكير قوميا لا يتسق مع ما يشهده العالم اليوم من انفتاح بين الهويات بما يؤكد انسجامها وبما يدعم فكرة الوحدة القائمة على التنوع.
صار البشر يتنقلون اليوم بخفة بين الهويات لا من أجل تبنيها مجتمعة أو اختزالها، بل من أجل إثراء هوياتهم التي لم تعد مقفلة على عناصر تكوينها التقليدي.
بشر اليوم هم سكان الكوكب. أبناء ذلك الكوكب الذي يذرعون جهاته ليلتقطوا ما ينفعهم في تفسير ما لم يكن مفهوما من قبلهم في ما مضى.
في مترو الأنفاق بلندن نادرا ما تسمع أحدا يتكلم الإنكليزية. باستثناء التعليمات التي تحدد سير القطار والتي تُذاع بالإنكليزية، فإن الألسن تتنقل بين اللغات بخفة الفراشات. ما عليك سوى أن تنصت لتحلق في فضاء الإيقاعات ولترى العالم على حقيقته، حقلا شاسعا تربط بين جنباته المترامية دروب مزهرة. لم تعد الهويات قاتلة كما كانت توصف من قبل.
ولكن هل يصح ذلك على عالمنا العربي الذي ركنه التاريخ جانبا حين تخلى عن هويته الجامعة بفعل الاضطرابات السياسية ليستنجد بشره بهوياتهم الضيقة ولتتحول تلك الهويات إلى أسلحة للقتل؟
ما لم يكن في الحسبان أن يؤدي سقوط الأنظمة التي تبنت فكرا قوميا شموليا إلى تعثر ذلك الفكر في مهمته الجامعة، ومن ثم وقوعه في فخ التطابق بينه وبين ما كان زعماء تلك الأنظمة قد جعلوا منه أسلوبا للحكم، وهو أسلوب تميز بطابعه الاستبدادي.
ومثلما تم التنكر لإنجازات أولئك الطغاة على المستوى التنموي فقد تم التنكر للفكر القومي، من خلال شيطنته واعتباره واحدة من وسائل الحكم التي حاولت الأنظمة السابقة من خلالها أن تنشر نمط ثقافتها القطيعية.
حدثت الردة عن الفكر القومي بطريقة تشبه توقيع صك البراءة من قبل السجناء العقائديين في الأزمنة المظلمة. وهي ردة حملت بين ثناياها معنى التخلي عن الهوية القومية والعودة إلى الهويات الفرعية التي لم تعد ذات قيمة في التصريف اليومي لشؤون الحياة في عالمنا. فكانت عبارة من نوع “العراق أولا” مضللة من جهة ما تتضمنه من عودة عقيمة إلى هويات طائفية وعرقية، كان العراقيون عمليا قد تجاوزوها منذ عقود.
وكما أثبتت الوقائع عبر السنوات الماضية فإن الهويات المتناقضة التي استنهضت لتكون بديلا للهوية القومية الجامعة، قد أدت إلى إحداث شرخ عظيم في النسيج الاجتماعي العراقي، لن ينجح دعاة تلك الهويات في علاجه إلا عن طريق تقسيم البلد على أساس عرقي وطائفي. وهو الدرس البليغ الذي لم يتعلم منه السوريون شيئا.
فبالرغم من أن سوريا لم تخترع العروبة، غير أنها كانت حاضنة الفكر القومي الذي اتخذ في ما بعد طابعا سياسيا، ليقضي الجزء الأكبر من حياته مدافعا عمّا سُمي مجازا بفرسان العروبة الذين لم يكونوا سوى طغاة ريفيين، أضفت عليهم شعبيتهم هالة الشرعية التي كان من شأنها أن تدمر أجزاء من الأوطان تحت ذريعة التكامل القومي.
هل كان الفكر القومي بريئا من أفعال أولئك الطغاة؟
سؤال ساذج استعمله أعداء الهوية القومية الجامعة في مسعاهم لشيطنة الفكر القومي من جهة اعتباره الماكنة التي فرّخت الطغاة. أعتقد أن ما يشهده العالم العربي من تمزق وحروب أهلية، مصدرها الهويات القبلية والطائفية ينطوي على جواب شاف على ذلك السؤال.
لقد تدهور الشعور الوطني لدى مواطني الدول التي أزيح عنها غطاء الهوية القومية، فصارت لا ترى الطريق سالكة إلى أوطانها. فما الذي يعنيه شعار “العراق أولا” في ظل التطاحن الشيعي ـ السني المقترن برغبة كردية في الانفصال؟
يوم كان العراق عربيا كانت هناك ضمانات كثيرة لكي يحيا الأكراد حياة طبيعية، بشرط استبعاد شبح الاستبداد الذي كان العرب في مقدمة ضحاياه. أما أن يكون العراق من غير هوية، فإن أحدا من سكانه لن يسلم من خرابه.
كاتب عراقي
باهر/12