أغلال الكراهية
هيثم حسين
الكراهيات تشرع الأبواب على سلسلة من الجرائم بأقنعة مختلفة، من دون أن تثير لدى أصحابها الرغبة في التفكير بأنّ الاختلاف إثراء للمجتمعات، والتنوّع أساس الحياة البشرية ومرتكزها.
المحبّة وتقبّل الآخر للقضاء على الكراهية
يتساءل أحدنا حين يصادف ممارسات عدوانيّة وإجرامية من قبل بعض الناس عن ماهية الشرّ الذي يسكنهم، والكراهية التي تفتك بأرواحهم وتجعلهم ناقمين على فئات بعينها، أو على المجتمع برمّته، وكيف لهم أن يعيشوا متصالحين مع أنفسهم مع كمّية الغلّ التي تغرقهم بنيرانها.
حين تقع جريمة مروّعة، كتلك التي وقعت قبل بضعة أيّام في نيوزيلندا، تثير الرأي العام العالمي لكشف الجوانب المحيطة بها، ودوافع مرتكبيها، وكيف أنّهم ينسلخون من إنسانيّتهم وينحدرون إلى مستوى عدوانيّ بدائيّ وحشيّ لا يليق بإنسانية الإنسان، فإنّ هناك آخرين في مختلف الأطراف يسعدون بها، لأنّها تمنحهم “إذنا أو مبرّرا” لإظهار الكراهية التي تفيض بها قلوبهم، والبدء بإطلاق الأحكام المسبقة التعميمية التي تمهّد لسلسلة جرائم محتملة، لأنّ بذورها وشراراتها مهيّأة، وتستمدّ جذوتها من الدماء المسالة، بحيث يكون البحث عن الانتقام دافعا شرسا لجرائم لاحقة.
لا يتعلّق الأمر بأيّ مفاضلة بين النقائض، بين الخير والشر، الحب والكره، وثنائيات أخرى يتمّ استحضارها في هذا السياق، لكنّه مرتبط بالإنسانية التي يتمّ سحقها على مذبح مشاعر الضغينة التي تقود أصحابها إلى مستنقعات من الأحقاد والدماء، وتبقيهم مكبّلين بأغلال الكراهية التي تنخر دواخلهم، وتظهر القبح الذي يملي عليهم جنونهم وتعطّشهم للعنف المدفوع بكراهية تتغذّى على ذرائعيّات مستقاة من عقائد – دينية أو دنيوية – يتمّ تأويلها بطريقة رغبوية حاقدة، تسيء إليها وإلى معتنقيها قبل مَن تعدّهم من الأغيار، بحسب التعبير العنصريّ.
لا تحتاج الكراهية إلى أيّ إرادة قويّة أو صمود أو مكابرة على الجراح، أو تحمّل أعباء تفهّم الآخرين ودوافعهم، لأنّ من الأيسر للشرّ أن ينمو في أيّ أرض ملوّثة، ويكبر داخل كلّ نفس موبوءة بأوبئة تأثيم غيره واعتبارهم كائنات أو أشياء محتقرة من السهولة بمكان، أو من الواجب، التخلّص منها، من أجل الحظوة بأوقات، أو حياة، أفضل من دون وجودهم الذي يعكّر عليهم صفوهم المتوهّم.
يضفي المغلولون بسموم الكراهية على عنفهم تقديسا يشرعنون عبره أيّ إجرام يكونون بصدد الإقدام عليه، لأنّ إيمانهم الأعمى يلقي بغلالة سوداء على بصيرتهم، ويغذّي جمر الأحقاد الذي يمضي بهم إلى تدمير أنفسهم في مسعاهم لتدمير مَن يعتبرونهم أعداءهم، وهنا أتباع الأديان من المتعصّبين والعنصريين هم أشدّ مَن يجد ضالّته فيها.
ترويض الكراهية يحتاج إلى قوّة إرادة وإلى مكابرة ومصابرة وجرأة على المواجهة والمكاشفة، لأنّ إعمال العقل يبدو أكثر صعوبة من الانسياق وراء الغرائز الوحشية.. وحين يصل الحقد إلى مدى يعمي صاحبه، لن تكون هناك أيّة روادع قادرة على إيقافه ومنعه، يوقن عندئذ أنّه بقتله لمَن يعتبرهم مصدر شرور عالمه فإنّما ينفّذ مهمّة مقدّسة، وهذه محنة حقيقية لمعتنقي الأفكار الانتحارية من أتباع هذا الدين أو المعتقد أو ذاك.
الكراهية تمنح مبرّرات الاستغراق في تشويه الآخر من دون أيّ تأنيب للضمير، يكون تكبيت أيّ صوت داخلي هامس بوجوب التعقّل من باب الترفيه، لأنّ شيطنة الآخر حين تستوطن روح المرء فإنّها تحلّل له كل محرّم، وتوهمه بأنّه يؤدّي رسالته المقدّسة ومهمّته التاريخية على أكمل وجه..
لا يخفى أنّ الكراهيات تشرع الأبواب على سلسلة من الجرائم بأقنعة مختلفة، من دون أن تثير لدى أصحابها الرغبة في التفكير بأنّ الاختلاف إثراء للمجتمعات، والتنوّع أساس الحياة البشرية ومرتكزها. ولا يخفى كذلك أنّه لا يمكن التصدّي لهذه الكوارث المتفشّية من دون المحبّة وتقبّل الآخر كما هو، ومن دون التحلّي بالوعي وإعمال العقل والفكر، ليكون التفكير عوضا عن التكفير أساسا ومنطلقا.
كاتب سوري