علي السوداني - عمّان
وهذا أمرٌ لذيذ يحدث لي مرةً واحدةً كلّ سلة من سنين . إنها الرغبة المدغدغة في حمل ورق وقلم وعلبة سجائر والهجرة صوب مقهى يحتوي على الكثير من الهدوء ويخلو من ضجيج لاعبي الدومينو والطاولي ، والبرود المميت الذي يصبغ وجوه لاعبي الكونكان وحركاتهم البطيئة المزعجة ، وذلك من أجل كتابة نصٍّ أدبي قصصي صرف ، أو مكتوب جرائدي سيتمّ تلطيخه بلغة سهلة من صنف السهل الممتنع ، فيتحول النتاج إلى ما يسمى العمود القصصي .
في البدء كانت المسألة استعراضية فجّة أو تقليداً سيئاً لحياة أديب مشهور كنت شاهدته كشريط سينمائي بديع ، ثم نما الأمر بعد أن كبرت الحروف وفاضت القراءات وتناسلت القصص والحكايات ، وصارت تلبط عند عتبة حرفة الكتابة ، لكنّ الشقّ الإستعراضي التمثيلي لم يغادر أبداً جوهر تلك الغزوة الكتابية المضحكة التي لم أستطع معها حتى اللحظة ، كتابة قصة واحدة قصيرة أو من قصار القصص التي تشيد على ثلاثة أو أربعة سطور .
أذكر مساء رائقاً من مساءات بغداد العباسية المدهشة ، كنت تعطرتُ وتأبطت فيه كتاباً هو من متممات مشهد الشاعر البصّاص بطل الفلم العتيق ، ويممت وجهي شطر مقهى جميلة بمنطقة المنصور ، ولا أدري إن كان اسمه مقهى الرصيف أم أن وقوعه على تمام رصيف المشاة هو الذي أوحى الي بهذه التسمية الأدبية حقاً . يقع المكان بمواجهة دكان دوندرمة الرواد الشهيرة وقبله بعشرين ذراعاً ثمة دكان لبيع الملابس الماركات ، حيث سعر القميص قد يكلفني أيامها كلّ راتب الجندية الشحيح . استوطنتُ مقعداً وطاولة لصق الزجاج حيث منظر النساء الحلوات وهن يمرقن بغنج مبين ، وفكرة ضخمة تركل رأسي وتداعبه عن صبية جميلة ستمر بعد قليل وتنقر عيناي بإصبعيها السكريتين ، فأدعوها الى طاولتي فتسألني عن الكتاب الذي أقرأ فأشهره بوجهها فتتعجب وتتفاعل وتتألق وتذوب في حبي ، بعد أن تعرف أنني شاعر وحالي من حال مؤلف هذا الكتاب ولو بعد حين من دهر بدا لها ولي منظوراً .
ناديت النادل الوسيم وسبقت النداء العالي بمفردة " معلِّم " وكانت تلك أولى أغلاط السيناريو الذي يعبىء رأسي ، وطلبت منه فنجان قهوة مرة . مع كل ثلاث حسوات من الفنجان كنت أدخن لفافة تبغ وأقرأ صفحة من الكتاب لم أفهم منها شيئاً ، بسبب أثاث دماغي المنشغل بحظ بطل الشريط القديم . وفي حماقة ثانية طلبت من المعلّم المسكين أن يأتيني بورقة بيضاء وقلم ، ففعل النادل بعد أن أوحيت له بأنني كاتب ، وبسرعة غبية قمت بكتابة شيء ظننته قصيدة وما هو إلّا بعض هراء عظيم .