محمود الجاف
تأثرت ديانات الفُرس باليهود والنصارى والبوذيين . فاليهود دخلوا بلاد فارس مُنذ السبي البابلي وازداد عددهُم في عهد الاشكانيين . المصدر ( الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 244 ) واعترف بعض ملوكهُم بهم وقد أنشأوا مدرسة (سورا) المشهورة في أوائل القرن الثالث الميلادي وصاهروهُم ومرازبهم فامتزج الدم اليهودي بالفارسي . كما تأثروا بما عندهُم من تنظيم وسرية وتقية استمر أثرها في مُعتقداتهم في مُختلف حقب التاريخ المُعبأ بالحقد وعُقدة الثأر وشَهوة الإنتقام على كل ما هو عربي . ومُنذُ أن بُعثَ مُحمد صلى الله عليه وسلم بالهُدى ودين الحق والاسلام يتعرض الى حُروب شرسة بشتى الوسائل . وتوالت عليه الهجمات مُنذ عهد الخُلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية والعباسية ثم العُثمانية ولازالت مُستمرة . ولم يكن ثمة ذنب ارتكبوهُ إلا أنهُم سعوا الى نشر دعوة التوحيد وإن كان في ذلك جُرماً فما أعظمهُ من جُرم!
لما شكى الصحابة تسلط المُشركين عليهم في مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ... والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه .. ) البخاري . وها نحن نرى كثيراً من المبشرات منها إقبال الناس في العالم على الدخول في الاسلام أفواجاً أفواجا . ولما رأى جند الأعور الدجال ذلك حاولوا طمس نوره والتشكيك فيه والتأثير على أهله عن طريق الغزو العسكري تارة أو الفكري تارة أخرى وهو أخطر وأعظم . وحال المُستشرقين والحملات المأجورة لأقلام عربية وإسلامية لا تزال تنخر في جسد الأمة ليلاً ونهاراً والفكر الصفوي وجرائمهُ خير مثال .
إن في العالم الإسلامي اليوم حركات باطنية رهيبة : كالرافضة والنصيرية والدرزية والبهائية والإسماعيلية وجميعها نظمت نفسها على أساس انتمائها الطائفي يتوارى قادتها خلف شعارات حديثة براقة تُهدد واقع ومُستقبل الإسلام وأقاموا لهُم نظامين في إيران وسوريا ويعلنون صراحة بأن حركتهم ستعم الأمة ومن المُؤسف أن يُعلق البعض الآمال على نظام الملالي لأنهُم رفعوا الشعار الإسلامي الذي جاء به قبلهم القرامطة والدولة العبيدية في مصر وعندما ملكوا أمر المسلمين أفسدوا الحرث والنسل ونشروا الكفر والإباحية واستباحوا الدماء . جميعهم يعودون إلى أصل واحد هو التشيع الصفوي الذي تعود جذوره إلى المجوسية وموطنه بلاد فارس . وهناك فرق واسع بين شيعة علي الذين كانوا يرون أنه أحق بالخلافة ولهذا وقفوا إلى جانبه وحاربوا تحت رايته . وبين الشيعة الذين يقولون بعصمة الأئمة ويشتمون الصحابة وينكرون السنة ويعتقدون بالرجعة والتقية . ولابد من التفريق بين الفرس الذين كادوا للإسلام وتآمروا عليه وبين الذين دخلوا في دين الله وحسن إسلامهم وذادوا عنه بسيوفهم وعلمهم وأموالهم من أعلام السلف الذين ورد فيهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأُنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال : قلت : من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعهُ حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال : لوكان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء) البخاري .
والفُرس المُسلمون الذين قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث هم إخواننا وأعلامنا . لقد كانت بلاد فارس مهد الحضارات ولكنهم بالغوا في التعصب لعرقهم فاعتقد بعضهم أن ملكهم الأول (كيومرث) هو ابن آدم وأنهم أصل النسل وينبوع الذرء . وطائفة ثانية قالت أنه أميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح . وطائفة ثالثة اعتقدت أنه نبت من الأرض وهو(الريباس) وتحول هذا الرأي إلى مذهب اسمه (الكيومرثية) خلاصتهُ الصراع بين الظلمة والنور . إنَّ تسلسل الطبقات الإجتماعية عندهم هي . طبقة رجال الدين ورجال الحرب وكتاب الدواوين وطبقة الشعب من الفلاحين والصنّاع . المصدر ( الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 572 ) ولما كان الدين أهم انتاج حضاري ابتكره الفرس كما يزعمون والفرق الباطنية التي تُهدد المُسلمين اليوم مُرتبطة أشد الإرتباط بعقائدهم القديمة .لهذا علينا الإطلاع على أهم أديانهم :
مزدا الحكيم : هو إله القبائل المُستقرة . بل إله العالم والناس جميعًا ويقوم على ركنين هما : الصفاء والعموم . تقف المزدية على نقيض مع عقيدة الشياطين التي يؤمن بها اللصوص والمُحاربون والقبائل الرحل ومنذ أن دخل الأيرانيون التاريخ (ومزدا أهورا) هو الإله الذي يتولى إرسال الأنبياء عندهم ومن رسله (كيومرث) و(زرادشت) و(مزدا أهورا) أو (أورمزد) الذي رفع السماء وبسط الأرض وخلق الملائكة الذين كان أول من أبدع منهم ( بهمن ) وخصهُ بموضع النور . وهذا الاسم تحملهُ عائلة فارسية كبيرة تمكنت من الدخول إلى الخليج العربي والحصول على الجنسية وهم من كبار التجار وكان لهم عضو في مجلس الأمة الكويتي . أليس في احتفاظهم باسم (بهمن) دليل على التعصب للمجوسية رغم زعمهم بأنهم مُسلمون ؟
المصدر ( الملل والنحل ج1 ص 238 وايران في عهد الساسانيين ص 19)
الزردشتية : في القرن السابع ق . م ادعى (زرادشت) أنه نبي أرسله (مزدا) ومن عقيدته : الصراع بين النور والظلمة وهما أصلان متضادان ومبدأ وجود العالم انبثق عن امتزاجهما : الخير والشر والصلاح والفساد والطهارة والخبث ولولاه ما وُجد . ولسوف يستمر الصراع حتى يغلب النور على الظلمة والخير على الشر ثم يصعد الخير إلى عالمه وينحط الشر الى عالمه . والزروانية احد مذاهب المجوس الذين يعتقدون أن الشيطان من مصدر رديء وأنه كان مع الله . المصدر ( الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 236 ) وهم يقدسون الماء ولا يغسلون به وجوههم ولا يستعمل عندهم إلا للشرب وري الزرع . وللإنسان عندهم حياتان : أولى تحصى فيها أعمالهُ وأخرى ينعم أو يشقى فيها ويتحدثون عن جهنم والصراط المُستقيم . وهُم ينتسبون إلى قبيلة المغان التي لها حق الاشراف على بيوت النار وأهم معابدهُم أو بيوت نارهم : معبد (يزد) والشمس من آلهتهم لأنها مصدر النور كما أن الجدب عندهم من مصادر الظلمة . والحكيم هو زردشت بن يورشب ولد في أذربيجان وأمهُ من الري ويعتقدون أن روحه كانت في شجرة أنشأها الله وأحف بها سبعين من الملائكة المقربين وغرسها على جبل في أذربيجان . وله كتاب اسمه (زند أوستا) يقسم العالم إلى قسمين : مينة وكيتى ويعني الروحاني والجسماني ( اللاهوت والناسوت ) والزردشتية جماعة مُنظمة ولها درجات ومراتب وتطور أمرها بعد أن آمن بها ازدشير الأول وابنه سابور واتخذا منها دينا لدولته . المصدر (الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 236 ) و ( فجر الاسلام لأحمد أمين ج1 ص 124 ) و ( قادة فتح بلاد فارس عن معجم البلدان ج8 ص506 )
المانوية : ولد ماني في ولاية مسين في بابل عام 215 أو 216 بعد نزول المسيح عليه السلام وظهر في زمان (سابور بن أزدشير) فقتله بهرام بن هرمز بن سابور عام 279 لأنه جنح نحو الزهد الذي لا يناسب دولتهُ المُحاربة . ويُنتسب إلى أسرة إيرانية عريقة فأمه من العائلة الاشكانية المالكة وأبوه فاتك الحكيم . بدأ دعوته في الهند مما جعل بعض المؤرخين يعتقدون أنه أخذ نظرية التناسخ من البوذية وأخذ عن الزردشتية قولهم بأن العالم مصنوع من أصلين : نور وظلمة . لكنه اختلف معهم ومع المجوس في اعتقاده بأنهما قديمان أزليان وأخذ عن النصرانية عقيدة التثليث فالإله عنده مزيج من (العظيم الأول) و(الرجل القديم) و(أم الحياة) وفي النصوص التي حفظت عن المانوية عبارات مأخوذة عن الأناجيل . المصدر ( إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ص 171) و ( إيران في عهد الساسانيين لكريستنس ص 171) ويعتقد بتناسخ الأرواح وآمن بنبوتي عيسى عليه السلام وزردشت ويعتقد بأنه خاتم الأنبياء وأرسل الى الناس كافة . وأطلق الفرس على ماني ومن تبعه اسم (الزنادقة) وسبب هذه التسمية أن زردشت جائهم بكتاب اسمه (البستاه) وعمل له تفسيرا أسماه (الزند) وجعل له شرحا أسماه (البازند) وكان من أورد في شريعتهم شيئا بخلاف المُنزَّل وعدّل إلى التأويل قالوا : هذا زندي فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى وقالوا : زنديق . والثنوية هم الزنادقة ولحق بهؤلاء سائر من اعتقد القدم وأبى حدوث العالم وعلى رأسهم (المانوية) ولهم تنظيم دقيق فهيكل الجماعة يقوم على خمس طبقات مُتسلسلة كأبناء العلم والعقل والفطنة والسماعون وهم سواد الناس ولكل منها شروط وتكاليف . ونجح ماني في ادخال أخوين لسابور في تنظيمه وبعد أن لقي مصرعه اتخذ أتباعه عيدا لهم أسموه (بيما) ذكرى لمقتل نبيهم واستمرت الدعوة بشكل سري بعد اضطهاد الزردشتين لهم . المصدر ( مروج الذهب للمسعودي ج 1 ص 251 ) و ( ايران في عهد الساسانيين ص 169 )
المزدكية : تأسست في عهد (قباذ) والد كسرى أنو شروان في فارس عام 487 وبدأ دعوته كمؤمن بعقيدة ماني مع خلاف بسيط لأنه يرى أن (النور) يفعل بالقصد والاختيار والظلمة تفعل على التخبط والاتفاق . وهو رجل تنفيذ وليس زهد كماني ولهذا نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال ونادى بتقسيم الأرزاق بين الناس بالتساوي كما نادى بالإباحية وجعلهم شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلآ . وحض بذلك السفلة عل العلِّية وسهل السبيل الى الظلم وللعهّار الى قضاء رغباتهم فوقع بالناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله وصار لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه . وساعد المزدكيين على المضي في جرائمهم واستجابة قباذ لهم وتعاونه معهم لان اخوه (جاماسب) واحدا منهم وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله . المصدر ( الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 249 ) و ( تاريخ الطبري ج1 ص 137)
كانوا يزهدون في أكل لحوم الحيوانات واذا أضافوا انسانا لا يمنعوه من شيء يلتمسه ولهم فلسفة خاصة في الاباحية فهم يرون أن البسطاء لا يستطيعون التخلص من اللذات إلا في اللحظة التي يستطيعون فيها اشباع هذه الحاجات . وبعد أن كانت المزدكية مذهبا دينيا صارت مذهبا اجتماعيا وقوانين وعم شرهم في كل مكان حتى جاء كسرى (أنو شروان بن قباذ) فرد الأموال لأهلها وجعل التي لا وارث لها رصيدا لإصلاح ما فسد . وبعدها صارت المزدكية فرقة سرية وبقيت على هذا النحو أيام الدولة الساسانية ثم عادت الى الظهور في بداية العصور الاسلامية . وصفها بعض المؤرخين فقالوا (فاذا حجاب الحفاظ والأدب قد ارتفع وظهر قوم لا يتحلون بشرف الفن أو العمل لا ضياع لهم موروثة ولا حسب ولا نسب ولا حرفة ولا صناعة عاطلون مستعدون للغمز والشر وبث الكذب والافتراء بل هم من ذلك يحيون في رغد من العيش وسعة المال . المصدر ( فجر الاسلام لأحمد أمين ج1 ص 137 ) وهكذا عم التطاول كل مكان واقتحموا قصور الأشراف ناهبين الأموال مُغتصبين الحرائر يملكون هنا وهناك الاراضي رغم انهم لا يعرفون الزراعة . المصدر ( ايران في عهد الساسانيين تأليف كريستنس وترجمة يحيى الخشاب ص 343)
عبد الفرس قوى الطبيعة والأجرام السماوية والآلهة التي تمثل قوى أخلاقية أو آراء معنوية مُجسمة وكان على الفرد أن يصلي للشمس أربع مرات وللقمر والماء والنار التي لايجوز ان يخبوا لهيبها في البيت وجميعهم اعتقدوا بالحلول والتناسخ والأساطير والخرافات . ثم انتشرت النصرانية وعندما انتهى الحكم الى الاشكانيين كان لهم مكان في (الرها) وكان هناك اسقفيات كثيرة في المناطق الأرمينية والكردية والأهواز وحاولوا أن يجمعوها تحت ادارة مركز واحد في المدائن غير أنهم فشلوا وعاشوا في سلام ولكن بعد ان اعتنق (قسطنطين) الديانة النصرانية تآمروا على سابور فاستشاط غضبا وبدأ اضطهادهم منذ عام 339 حتى هلاك سابور الثاني . وكذلك لم يكن أزدشير الثاني مُحبا لهم حتى جاء يزدجرد الأول 421 فتحسنت العلاقات معهم . المصدر ( مروج الذهب : المسعودي ج1 ص 288 . ايران في عهد الساسانيين ص 253 ) أما أثرها في مُعتقدات الفرس فسبق أن رأينا كيف جاءت (المانوية) بعقيدة التثليث والحلول . واختلط رجال الدين الفرس بالبوذيين فأخذوا عنهم وأعطوهم وزاد هذا الاختلاط عندما كان أصحاب الديانة المغلوبة يفرون من بلادهم ويلتجئون الى الهند أو الصين كما حصل للزردشتية والمانويين .
إن الزعامة الدينية في بلاد فارس كانت لقبيلة (ميديا) وفي عصر زردشت أصبحت لقبيلة (المغان) ورجالها هم ظل الله في الأرض وقد خلقوا لخدمة الآلهة والحاكم يجب أن يكون منهم وتتجسد فيه الذات الالهية وتتولى هذه العائلة شرف سدانة بيت النار . إن عبادة الله عن طريق القبيلة هو الذي دفعهم الى التشيع لآل البيت لا حبا بهم ولكن لأن هذا التصور يلائم عقيدتهم والسرية هي أصل من أصولها فالزردشتيون استمروا يعملون وينشطون بشكل سري بعد أن تعرضوا للاضطهاد على أيدي أتباع (مزدا) وكذلك المانوية بعد أن بطش بهرام بن هرمز بهم ونفس الشيء مع المزدكية بعد أن نكل بهم أنو شروان . وكانت أديانهم منظمة تنظيما هرميا دقيقا يراعون فيه ظروف العصر وهي من القوة بحيث تمكنهم من الوصول الى قصور الحكام في حالات ضعفهم أما في غيرها فالحكام من أفراد القبيلة التي ترعى شؤون الدين . تاريخهم يمتاز بالفتن التي كان فيها الأخ يقتل أخاه والأب ابنه بدون رحمة ولا شفقة وعندما يشعر مُلوكهم بأن الخطر قد أحاط بهم ينقضون على من يزعمون أنهم أنبياء لهم فبهرام بن هرمز قتل ماني وكسرى أنو شروان قتل مزدك . وعلى ضوء معرفتنا لهذه الحقيقة علينا ان نفهم أسباب الفتن في البلاد التي يسيطرون عليها في عصرنا هذا ولماذا كانوا وما زاولوا يصفون خصومهم عن طريق الاغتيالات .