"كل أيامك عيد.. حاشاك"
حكيم مرزوقي
العيد يكبر ويشيخ بدوره، لكنه يمعن في التصابي باسم مواكبة مفردات العصر، فها هي التهاني تفقد حواس الشمّ والسمع والبصر واللمس والتذوّق وحتى التوقع.
العيد يفرح الأطفال على قدر ما يبعث الشجن لدى الكبار
اشتريت حذاء جديدا ووضعته عند سريري فلم يوقظني من نومي، ولم يركض بي نحو مقبرة العائلة. اقتنيت بنطلونا أزرق اللون فلم تكتنز جيوبه بقطع النقود والمفرقعات. اشتريت قميصا أبيض فلم تلوّثه أختي بعصير الرمّان ولم تعاقبها أمّي. ركبت المراجيح فلم توصلني إلى السماء، اشتريت ألعابا فلم يسرقها منّي أحد.
نفخت بالونات كثيرة حتّى طقّت بين أصابعي فلم أغضب. قرأت الفاتحة على قبور هؤلاء جميعا فلم ألثغ بحرف السين، لكنّهم سمعوني هناك.. أنا على يقين بأنّهم سمعوني: أبي وهو يجالس جارنا عبدالله، على طاولة الدومينو دون خصام، أمي وهي تتذوّق ما صنعته من حلويات العيد، نكاية في مرض السكري، وأختي وهي تأكل من فاكهة الجنّة دون أن تقترب من شجرة الرمّان.
العيد يكبر ويشيخ بدوره، لكنه يمعن في التصابي باسم مواكبة مفردات العصر، فها هي التهاني تفقد حواس الشمّ والسمع والبصر واللمس والتذوّق وحتى التوقّع، وصارت تُرتكب بالإبهام على جهاز الموبايل، معمّمة على الجميع مثل أقراص الأسبرين في مستوصف ريفي.
مهلا.. نحن أيضا مصابون بداء الحنين المزمن، ونذهب بعيدا في التحسر على ما كان دون فائدة في الأيام الخوالي، كأن نشتاق إلى حالة أمّ تسهر الليل في سبيل صنع حلويات تتميز عن تلك التي تصنعها أم لطفي أو أم صبحي.. أليس من الأجدر، اليوم، اقتناؤها جاهزة، ودون خسائر في الجهد والوقت والمال؟ الزيارات كانت عبئا اجتماعيا زائدا، وتأخذ في غالب الأحيان شكلا عبثيا، كأن تتكبد عناء الطريق لتقول لأحدهم “عيدك مبارك” ثم تعود أدراجك ليفعل هو الشيء نفسه بعد ساعتين ويقول لك ذات العبارة التي بإمكانها أن تُختصر عبر “سكايب” ثم أنه قد لا يجدك في البيت.
العيد، على مر العصور، يفرح الأطفال على قدر ما يبعث الشجن لدى الكبار. وهؤلاء الصبية الذين نشاهدهم يملأون هذا الصباح صراخا وهرجا ومرجا، سوف يكتبون في منتصف العمر، قصائد وجع ونوستالجيا، مرددين بيت المتنبي نفسه “عيد بأية حال عدت يا عيد..”. وسوف يشتاقون إلى “معايدات الموبايل أيام زمان”، يتبادلون عبارات التهنئة عبر “شيء آخر”، والله أعلم، بل قد يحدثون أبناءهم عن شيء اسمه “العيد”.
مهلا، نسيت شيئا.. أليس العيد -كحالة فرح-، يأتي عادة بعد الأيام العجاف، يقطعها باستمرار مثل لقطات الدعاية في مسلسل رمضاني، فلا يقولنّ إذن، أحد للآخر “إن شاء الله كل أيامك عيد”.
كاتب تونسي