أسئلة المشهد الراهن..
التيار القومي إلى أين؟
د. قيس النوري
ليس من شك أن المشهد العربي تتلبده سحب سود قاتمة تنفث رماد حريق يراد له أن يطفئ حركة النهوض العربي ويغتالها، ذلك الهدف، الذي يتوافق عليه أكثر من عدو، وبرغم سوداوية هذا المشهد، يخطئ من يظن أنه يمثل نهاية المطاف.
حركة التحرر العربي وقواها الحية، كما هو حال جميع الحركات التحررية في العالم أجمع، تمرّ بمراحل وعقود تشهد في بعضها انتصارات تتحقق، وفي مرات أخرى تشهد تراجعاً، وربما فشلاً يسم مرحلة بعينها، أو عقداً من زمن مسيرتها.
عندما نتحدث عن حركية قوميتنا العربية بسماتها الشاملة كهوية أو ذاتية أو خصوصية، فإننا في واقع الأمر نتحدث عن قومية لم تتخندق، عبر تاريخها، بالسكون، كونها قومية دينامية طالما هي مستغلة خاضعة للاستنزاف الاقتصادي والسياسي والثقافي، وما دامت هي كذلك فإن طابع حركتها يحتم عليها العداء للاستعمار والإمبريالية الجديدة والتبعية بصفاتها كلها، وتتسم بنزوع تقدمي أصيل يرنو إلى البناء الذاتي المستقل، وتضيف إلى مسيرتها أي نزوع أو جهد معادٍ للاستعمار والامبريالية والتبعية، وأي اتجاه نحو التحرر والتقدم لابدّ أن يكون له بالضرورة طابعه القومي الأصيل، بصرف النظر عن توجهاته وصياغاته الفكرية.
هناك قانون اتسمت به اللحظات التاريخية، أو المنعطفات التكوينية الأساس، فحواه ملازمة اشتداد المدّ الثوري بمداه القومي الواسع، والعكس صحيح، تماماً، فعندما يشهد المدّ التحرري تراجعاً فإن ذلك ينعكس على المدّ القومي أيضاً، وشواهد عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عبّرت بجلاء عن اشتداد المدّ القومي، الذي لازم حركة التحرر العربي، آنذاك، إذ حقق انتصارات عربية مشهودة، في حين تعبّر المرحلة الراهنة عن تراجع سببته الهجمة المرتدة الشرسة لإجهاض المدّ القومي بنزعته التحررية، إنه، إذن، أحد مخرجات الصراع التاريخي بين الأمة والجبهة المقابلة.
الذين يطرحون المقولة الزائفة بفشل التيار القومي ويقررونها، إنما يتجاهلون أو يغيّبون، عن قصد، حقيقة أن نضال الشعوب سفر طويل، ففي حقبة من الحقب يتقدم النضال ليحقق نجاحات تؤسس لمزيد منها، مثلما تشهد حقب أخرى موجات ارتدادية تحاول إجهاض مشروع النزوع نحو التحرر وإعاقته، فحركة التحرر العربي الراهنة أصابها وهن مثلما يصيب أي حركة تحرر في العالم، فهناك انتكاسات فرضتها مجريات صراع متشابك بين قوى دولية وإقليمية، لكننا يجب أن نقرّ أن مفاعيل التقابل السياسي هي بطبيعتها متغيرة لا تتسم بالثبات، ومن ثم فأن الوصول إلى نتائجها وأهدافها النهائية تقرره مجريات الصراع ونفس المطاولة والصمود لكل طرف من أطراف الصراع، فهذا النوع من الصراعات لا تحسمه لحظات انتصار هنا أو تراجع هناك.
ولأجل أن يكون الدرس أكثر وضوحاً، علينا أن نقرّ أن ثمة أشياء فاسدة في دنيا عرب اليوم، فهناك تبعية سياسية واقتصادية وثقافية مفرطة، وهناك تداخل في خنادق دينية مذهبية اصطفت مع قوى أجنبية، أسهمت وتسهم، بشراسة، في قضم عناصر قوة التيار القومي ومكوناته البشرية والثقافية والأيديولوجية، لكنها مع ذلك الاصطفاف تراهن وتتغذى على عوامل خارجية هي، بدورها، خاضعة لقانون المتغير في موازين التأثير وقدراته.
مسار التيار القومي الراهن يواجه معضلة مركبة، فهو قد تراجع بحكم تكتل زخم القوة القوى المضادة وما تمتلك من عناصر قوة مضافة جراء تشكّل تحالفات نظمية سياسية عربية مناهضة أساساً لأي توجه قومي عربي حتى لو كان بأبسط أشكاله، وهي بذلك ملتحمة بعمق مع التحدي الخارجي وتغذيه بإمكاناتها السياسية والمادية.
المعضلة المركبة لا تقف عند هذه التحديات ولا تقتصر عليها، إنما يعزى وهنها إلى بنية العمل القومي ذاته، التي لم ترتق إلى مستوى التحدي بتجميع قواها بكتلة تنظيمية قومية عريضة، لمسببات موضوعية، بعضها تاريخي سببته تقاطعات ثانوية، يضاف إليها القصور في بناء منطلقات جديدة تكافئ التحدي وتتجاوزه.
خلاصة القول، فإن القومية وتيارها لم تفشل لنقرر نهاية الفكر القومي العربي، فهذا الفكر، إنما هو النسغ الجامع للذات العربية، يفكر به ويتبناه بل يتماهى معه كل عربي أينما كان بصرف النظر عما آلت إليه أحوال عرب السلطة اليوم، بهذا المعنى فإن هذا الفكر شريان ممتد من الصعب، بل من المستحيل على الجبهة المقابلة أن تنهيه مهما وظفت من قواها المادية والفكرية، كونه ضميراً عربياً جمعياً يتجدد تلقائياً مع كل جيل عربي حتى وإن تراجعت الصيغ التنظيمية المعبرة عنه.