أغنية وذكريات وتساؤل

بقلم حميد سعيد حزيران/يونيو 15, 2019 962

أغنية وذكريات وتساؤل
حميد سعيد
السؤال المحير هو أحقا كما تقول الرواية المحيرة والمربكة أن الأخوين الرحباني قد ادعيا شعرا وهو لغيرهما.
 الأخوان الرحباني وقصتهما مع الشاعر
كنت أستمع إلى أغنية فيروز، أنا يا عصفورة الشجن، وحين وصلت إلى هذا البيت: راجع من صوب أغنية/ يا زمانا ضاع في الزمن.
كنت أردد؛ الله.. الله، ضاع الزمان وضاع معه الحلم، وربما ضاع الأمل أيضا، ثم استغرقت في الذكريات، فالقصيدة المُغنّاة اختُلِفَ في شاعرها، غير أن الأستاذ جواد غلوم يؤكد أنها للشاعر اللبناني السيد علي بدرالدين، قد كتبها خلال إقامته في مدينة النجف، أيام كان يدرس الفقه فيها، وكانا على علاقة وثيقة ويومية، حيث كان الشاعر علي بدرالدين يقرأ له كل ما يكتب من شعر، ويتحاوران كلما التقيا مثل أي شابين متطلعين في مثل عمريهما، وحين عاد السيد علي بدرالدين إلى لبنان وأقام معتكفا في إحدى قرى النبطية، حيث كان اغتياله رحمه الله، اضطرته الحاجة حسب رواية الأستاذ جواد غلوم، إلى بيع قصيدتين لحنهما الأخوان رحباني وغنتهما فيروز.
 بالإضافة إلى هذه القصيدة، قصيدة أخرى هي “لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهُدُبِ”، وقد أكد لي بعض من أثق بهم، أن الأستاذ غلوم، مدقق موضوعي، لكنني لا أريد أن أدخل في مدخل إنْ كانت القصيدتان المذكورتان من شعر علي بدرالدين أو من شعر غيره، فإن صحت نسبتهما إليه، فلا أظن أن الحاجة وحدها اضطرته للتنازل عنهما، بل هناك عامل آخر، كونه رجل دين، وقد يحرجه أن ما يغنّى ينسب إليه.
ومن ذكرياتي عن الشاعر، وكان ذلك في أواخر سبعينات القرن الماضي تحديدا، حيث ألقى قصيدة رائعة عبر تلفزيون بغداد، أفصح فيها عن رؤية قومية وعن حبه للعراق وتفاؤله بمستقبله وإعجابه بحاضره، يومها كنت رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية فأردت نشرها في عدد اليوم الثاني من الجريدة، مع أنني كنت أعرف علاقته بالأستاذ ناصيف عواد رئيس تحرير جريدة الثورة أيامذاك، فإن لم أسارع إلى الوصول إليه فاتني نشرها في صحيفة الجمهورية، لذلك حاولت الاتصال بالشاعر هاتفيا فلم أوفق، فاتصلت بالصديق الشاعر عبدالإله الصائغ مدير القسم الثقافي في تلفزيون بغداد، يومذاك، وكان خارج بغداد، غير أنه أخبرني بأن مخطوطة القصيدة في مكتبه، فاتصلت بمكتب المدير العام، فوصلتني القصيدة في وقت متأخر نسبيا، ونشرتها في عدد اليوم الثاني على صفحة كاملة، ومن المفارقات أن يكون أول من اتصل بي هاتفيا في الصباح هو الأستاذ ناصيف عواد، ليقول لي: كنت أعرف أنك ستنشرها، فحدثته عن كيفية الحصول عليها ومن ثم نشرها.
في العام 1980 غادر علي بدرالدين مدينة النجف مضطرا وخائفا، بعد أن تعرض للتهديد بالقتل من قبل جماعة مرتبطة بالنظام الإيراني، بسبب موقفه القومي والتزامه الديني، بل سمعت أنه تعرض لمحاولة اغتيال، فنصحه محبوه بمغادرة النجف والعودة إلى لبنان، أما أنا فلست متأكدا من هذه الرواية ولا أستطيع نفيها أو تأكيدها.
ورغم ما اختار من عزلة خلال إقامته بعد العودة إلى لبنان فقد تم اختطافه وقتله، حيث وجدت جثته في أحد شوارع مدينة النبطية، ومرت حادثة اختطافه وقتله بصمت، فلم يستنكرها أحد ولم يكتب عنه وعن شاعريته رغم أهميته الشعرية، لذا لم أسمع باغتياله إلا بعد وقت طويل، وما زلت أظن أن من اغتاله في لبنان هم أنفسهم الذين حاولوا اغتياله في مدينة النجف، إذ حاول أن يهرب منهم غير أنهم تبعوه إلى حيث كان يظنه مكانا آمنا.
لقد علمت باغتياله في منتصف ثمانينات القرن الماضي وكتبت قصيدة عن اغتياله بعنوان “مرثية متأخرة جدا” كان مفتتحها “بين وقت الصلاة ووقت القصيدة../ خيطٌ من الدمِ/ يمتدُّ من ركعة الفجر حتى تخوم السماء/ أيها السيِّدُ الطفلُ/ تلك مغامرةٌ.. أنْ نُبَدِّلَ وهج قصائدنا/ بأريج الدماءْ”.
وهي منشورة في جميع طبعات ديواني “طفولة الماء” ومنشورة أيضا في المجلد الثاني من الأعمال الشعرية الكاملة، وهنا أتساءل، هل تم جمع شعر الشاعر وهل نشر في كتاب؟ أم ما زال الخوف والحقد يحولان دون جمعه ونشره؟
غير أن السؤال المهم، وهو الذي لا أستطيع الإجابة عنه، وهذا السؤال يتعلق بالأخوين رحباني، عاصي ومنصور، أكثر مما يتعلق بالشاعر علي بدرالدين، وهو: أحقا كما تقول الرواية المحيرة والمربكة، إنهما ادعيا شعرا وهو لغيرهما؟ وهل هما بحاجة إلى مثل هذا الادعاء، وماذا يمكن لقصيدتين أن تضيفا إلى منجزهما الإبداعي في الشعر والموسيقى والمسرح والغناء، مهما كانت أهمية القصيدتين اللتين نحن بصددهما.
وهذا السؤال يقودنا إلى سؤال آخر، إن صحت هذه الرواية، بأنهما انتحلا قصيدتي الشاعر علي بدرالدين، وقد لحناهما وغنتهما العظيمة فيروز، مع أنني في حيرة من الأمر برمته، إذ لم أجد له مسوغا وليس مثلهما بحاجة إليه، والسؤال هو: هل انتحلا قصائد أخرى لشعراء آخرين، سواء كانت هذه القصائد من الشعر الفصيح أم من الزجل؟
وينفتح هذا السؤال على قضية أخرى، مهمة وبالغة التعقيد، وهي الكتابة للغير، وهي قضية شائعة وقديمة وواسعة الانتشار وذات طرفين، الأول هو الكاتب والثاني من ينتحل الكتابة ويدعيها لنفسه بعد أن يدفع ثمنها، وإذا كانت دوافع الطرف الأول معروفة، في معظمها مادية يفرضها الفقر والحاجة، أو اجتماعية يحكمها الخوف من الآخر، لأسباب دينية أو سياسية أو أخلاقية، غير أن المحيِّر، ولأقل إن ما يحيرني هي دوافع الطرف الثاني، إذ تحيل إلى حالة معقدة يصعب تحديدها، غير أنها في جميع الحالات تفصح عن خلل ما، فماذا يعني أن يدَّعي امرؤ لنفسه ما كتبه شخص آخر، غير أن يكون ممن يعانون من شعور بالنقص فيحاول تعويض ذلك الشعور بالنقص، وإذا كان لمثل هذا الشعور ما يسوغه عند الكثيرين ممن لا يتوفرون على مقومات الحضور، فكريا كان أم اجتماعيا، فما هو المسوغ الموضوعي في حالة مثل التي تناولناها، وحضور الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، كان وما زال وسيبقى حضورا طاغيا؟
كاتب عراقي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه