تجارة الدين.. أتقنها الغرب وفشل فيها الشرق
علي قاسم
قد تكون منطقة الشرق الأوسط مولدا للأديان السماوية، ولكن المتاجرة بالدين لم تكن يوما صناعة محلية.
ليس مهما أن يكون الدرس الموجز صحيحا أو صادقا
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمام تجمع الائتلاف اليهودي الجمهوري في لاس فيغاس، إنه اتخذ القرار المثير للجدل بالاعتراف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان بعد تلقيه درسا سريعا في التاريخ.
ويبدو أن ترامب استند إلى الدرس نفسه لاتخاذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها. وأضاف ترامب وسط ضحك من الحاضرين “قلت أيها الزملاء أسدوا لي معروفا. حدثوني قليلا عن التاريخ بشكل سريع″.من يعرف ترامب عن قرب، يعرف أنه يحب إعادة سرد الروايات، مضيفا إليها الكثير من الخيال والتوابل والبهارات.
وقد يكون مرد اعتقاد البعض اعتناق ترامب لليهودية، هو خيال الرئيس الجامح، ولكنه بالتأكيد جاء أيضا نتيجة اتباعه نمطا أكثر انحيازا تجاه إسرائيل من الرؤساء الذين سبقوه، إضافة إلى اختياره تل أبيب لتكون ضمن أول رحلة خارجية بعد دخول البيت الأبيض.
ورغم ما جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من أن “الرئيس دونالد ترامب قد يكون هديّة من الرب لإنقاذ اليهود”، تؤكد أوساط سياسية أن تدين ترامب مجرد خدعة انتخابية لجذب أصوات اليمين في بلاده، التي تستشعر حساسية كبيرة نحو التأثير والنفوذ اليهودي المتزايد في الولايات المتحدة.
درس التاريخ الذي تحدث عنه ترامب، ليس موجزا كما قال، بل هو درس تشربه طيلة عمره ودأب على ترديده.
وسواء كان تدينه مجرد خدعة، أم إيمانا حقيقيا، فإن أثره على سياسة البيت الأبيض واضح، تجلى مؤخرا باتخاذ مبادرة جديدة، أسماها مبادرة الإيمان، تهدف إلى تعزيز العلاقة بين الحكومة الأميركية والجماعات الدينية المعروفة بـ”الإنجيليين”، لتكون لهم قاعدة داخل البيت الأبيض، يمارسون من خلالها التأثير على قرارات الحكومة.
“الإيمان أقوى من الحكومة، ولا شيء أقوى من الله” بهذه الكلمات استهل إعلانه لمبادرة الإيمان.. بالنسبة لترامب فإن الأميركيين أمة من المؤمنين ساعدت صلواتهم في الحصول على الاستقلال، “لقد شكل الإيمان مجتمعاتنا وعوائلنا، وهو ما يلهمنا من أجل الدفاع عن الحرية، وما يشكل قدر هذه الأمة التي نحبها”.
بالطبع ليس مستغربا أن يثير القرار مشاعر باولا وايت مستشارة ترامب الروحية، معبرة عن فخرها الكبير بقرار الرئيس، فالقرار حسب باولا “خطوة تاريخية في علاقة الحكومة مع الدين والإيمان”، الأمر الذي تراه سيغير حياة كثير من الأميركيين. وترى باولا، التي زعمت أن ترامب رئيس مختار من الله، أن “معارضة ترامب تعني معارضة الله، وأن الشياطين فقط من يعارضونه وينافسونه”.
اختيار ترامب للإنجيليين دون سواهم من الطوائف، ليس صدفة، ولم يكتشفهم بعد “درس موجز بالتاريخ”، فهو يعلم مثل كل المحافظين في حزبه أنهم أكثر ميلا لإسرائيل من باقي الأميركيين، وأنهم أيضا أكثر تعاطفا معها من المسيحيين البروتستانت والعلمانيين. لا يخفون دعمهم لسيطرة إسرائيل على القدس، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، ويقفون إلى جانب إسرائيل في نزاعها مع الشرق الأوسط، أكثر من المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت والعلمانيين.
والتاريخ، الذي تلقى فيه ترامب درسا- لم يكن موجزا بالتأكيد- يذكر أن وراء حب المسيحيين المحافظين لليهود جذورا عميقة في معتقداتهم، فلدى الأصوليين البروتستانت تعاليم تسمى “التدبير الإلهي”، تقسم التاريخ الإنساني إلى سلسلة من سبع فترات أو مراحل، تعامل الله فيها مع الإنسان بشكل مختلف.
الفترة الأولى عصر البراءة، والفترة الثانية عصر الضمير، والثالثة عصر الحكومة، ثم الرابعة عصر النظام الأبوي، والخامسة تمتد من موسى إلى عيسى، وهي عصر الحكم الموسوي، ثم المرحلة السادسة من عيسى حتى وقتنا هذا، ويشار إليها بعصر النعمة الإلهية، وأخيرا المرحلة السابعة مستقبلية يعود فيها المسيح ليحكم العالم.
ويعتقد معتنقو “التدبير الإلهي” أن فترة حكم المسيح لن تأتي إلا واليهود يعيشون في إسرائيل، وعاصمتها القدس، في وقت معركة “هرمجدون”. وأن المسيح الدجال سيخدع الناس ويحتل الهيكل وسيحكم باسم الله، ثم يهزم في آخر الأمر على يد المسيح. لذا يعتقد الكثير من هؤلاء أن كيفية تعاملهم مع إسرائيل ستؤثر فعليا على مصيرهم الأبدي.
ومازال المسيحيون الأصوليون يؤيدون إسرائيل لاعتقادهم أنها ستكون المكان الذي سيعود فيه المسيح. ولذلك يعزز القساوسة الإنجيليون والأصوليون بكل حماسة فكرة دعم إسرائيل وموالاتها.
ليس مهما بالنسبة لترامب، رجل الأعمال السابق ورجل السياسة الحالي، أن يكون الدرس الموجز الذي تلقاه في التاريخ صحيحا أو صادقا، المهم أن هناك أعدادا كبيرة من الأميركيين يصدقونه، يجب الاستفادة من أصواتهم، وبيعهم السلعة التي يحبون.
قد تكون منطقة الشرق الأوسط مولدا للأديان السماوية، ولكن المتاجرة بالدين لم تكن يوما صناعة محلية. لنتذكر مطحنة الحروب الصليبية التي دفع رجال الدين في أوروبا خلالها الآلاف من الشبان للموت واعدين إياهم بصكوك الغفران، التي لا يملكون حق إصدارها.
أيضا الترويج لاعتناق هتلر وموسيليني الإسلام لكسب تأييد المسلمين في حربهم ضد الحلفاء، مثال حي للتجارة بالمشاعر الدينية.. أليس الإخوان المسلمون أنفسهم أيضا بضاعة إنكليزية؟
لن نذكر القاعدة وداعش وتوابعهما، حتى لا ندخل في جدل المؤامرة، ولكن رغم هذا تبقى المتاجرة بالدين صناعة أتقنها الغرب، وفشل فيها الشرق.
كاتب سوري مقيم في تونس