"يا اهْلَ الله ياللِّي هِنا"

بقلم سلطان الأصقه آب/أغسطس 18, 2019 936

"يا اهْلَ الله ياللِّي هِنا"
سلطان الأصقه
لقد أنعم الله على أخيكم بنعمة حبّ القراءة والكتابة، ولكنها قراءة وكتابة بمزاج؛ أقرأ ما أشاء متى أشاء كيفما أشاء، كما أن الكتابة لدي بمزاج، فأكتب ما أشاء متى أشاء كيفما أشاء أيضا. ومتى ما قُدّر لي الالتزام بكتابة مقالة أو بحث، لهما عدد معين من الكلمات والورقات؛ عندها أشعر بأنني أحمل على ظهري حملا لا يحمله من يحمل "شوال" الأرز 50 كيلو.
فلما تكرمتْ صحيفة "الحياة" عليّ بإفساحها المجال لي للكتابة ضمن كُتّابها الأكارم، أصابني الوجوم؛ فسيكون هناك موعد مقرر لتسليم المقالة المكتوبة، وهناك عدد معين من الكلمات والورقات، يعني انضباطاً في مواعيد الكتابة والتسليم، بمعنى آخر سيكون هناك اتصال يحمل معه صوتاً يقول: "تراك أبطيت علينا!!!"... وبمعنى أدق من المَعْنييْن السَّابقيْن؛ أن المزاج سـ"يتلخبط أيما لخبطة" وهذا ما لا أطيقه... والمزاج عندما يتحكم في صاحبه مشكلة "بعيد عنكم".
ومع هذا وافقت، ثم تعلّلت بضرورة تأخير موعد المقالة "البِكْر" (الأولى)، وليست "البِكْر" كالثيِّب، فلا بدَّ للـ"بِكْرِ" من طَلَّةٍ بَهيَّةٍ أجمل من طلَّة عروس المولد... كما قيل.
فما عساي أن أكتب؟
إنَّ المقالة، ليست كالبحث العلمي، ولا ككتاب يكتظّ بعشرات ومئات الصفحات، ولا هي تغريدة في تويتر، ولا هي محتوىً إعلامي منشور، إضافةً إلى أن صاحبتنا (المقالة) تعاني اليوم ما تعانيه من انصراف خلق الله عنها... فكيف إذا جاءت كسرد تاريخي، أو رصد معلومات جامدة، فلا شكَّ أن الخلق سينصرفون عنها بتذكرة ذهاب لا إياب.
فهل أحدثكم عن واقعنا المعاصر وإسقاط التاريخ عليه، سيقول الصادق منكم: "يا أخي إحنا ناقصين هَمْ"، وسيهمس من في قلبه مرض: "يا ليل ما أطولك".
وهذا حق؛ فأكثر الخلائق تئنُّ وتتوجع، فنحن نصبح على أصوات الصراخ، ونغدو على دويّ التفجير وآثار التدمير، ونمسي على بكاء وعويل، فكادت الضحكات العالية تختفي من حياتنا، والزغاريد المجلجلة كادت آذاننا أن تنساها.
نعم، أن هذا يحدث في العالم كله، لكنه في بلادنا العربية أكثر وضوحا؛ فالحزن والكآبة والنكد خبزنا الذي نقتات عليه بكرةً وأصيلا، حتى أصبح الواحد منّا كأنَّه يخاف من الضحك، إي ورب السماء، فلو حصل أن تعالت الضحكات، أو استمرت القهقهات لثوانيَ معدودات، هجمنا على أصحابها كهجوم الحلفاء في النورماندي، فَـ"نَئِدُ" تلك الضحكات الوليدة، نَئِدُها مردّدين على أصحابها "الله يكافيكم شرّ الضحك"؛ وكأنَّ الضحك "رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه".
ما علينا؛ المهم أن صاحبكم "انقدحت" في رأسه فكرة محببة إلى قلبه، وهي: أنني سأكتب كتابة ناقدة؛ أقرب ما تكون إلى الكتابة الساخرة، لأنني أظنُّ - وبعض الظن إثم - أن النكتة صديقة لي من سنين طويلة، وكثيرا ما تحْبِكْ معي في نقدي لواقعنا المعاصر. والأجمل من هذا وذاك، أن الله قدَّر لي صاحباً صَحِبْتهُ منذ صغري حتى يوم الناس هذا؛ وهو الأستاذ والأديب الشاعر: فالح بن بداح العجمي، فهو رجلٌ ساخرٌ من طرازٍ رفيع؛ لأنه ساخرٌ عندما يكتب، وساخرٌ عندما يتحدث، وساخر عندما يصمت، وساخرٌ من "سخرية الأقدار".
فإذا كان ذلك كذلك؛ فلتكن إذن دعوة للبهجة، ولتكن كتابة ناقدة ساخرة؛ محكومة بحدود الأدب وعدم التنقّص والاستهزاء، ولهذا أظنّ أنه ينبغي أن ألزم قلمي بهذه الحدود؛ فالتنقص عيب، والاستهزاء هو الآخر عيب، وسيأتيك من يصنع بك صنيعك في الآخرين، وكما نقول في أمثالنا: "من طَقْ وْليد الناس... طَقَّوْاْ وْليدَهْ"، و"مَنْ ضَحَكْ بالثُّرْمان... يَضْحَك بْلا سِنْ".
لا عيب في النقد المبهج ولا في صناعة الضحك، وكما يقال: الضحك ضرورة، والسخرية قمَّة الضحك، ونحن نقول: الضحك أمل (لا أعني أمل دنقل)، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
وقد قيل لنا أن صاحبنا الخواجة آيزنهاور قال: "روح الفكاهة جزءٌ من القيادة والتعامل مع البشر وإنجاز الأمور الكبيرة".
والدنيا تحتاج إلى معاركة، كما تحتاج إلى ملاطفة، والشاعر صالح جودت يقول:
اضحك من الدنيا ومن فيها * تضحك لك الدنيا وما فيها
والكاتب الساخر مجيد طوبيا يقول في كتابه الذي أرَّخ فيه للحمير -أعزكم الله-: "الدنيا مرآة، والباشا الإنسان واقف أمامها، إذا كان مبتسماً رآها مقبلة عليه، وإذا كان عابساً رآها مدبرة عنه!... وبالبلدي: اضحك للدنيا تضحك لك، كشَّر لها تكشّر لك".
وقد يعترض إنسان ويقول: أنا ضحكت لحضرتها ولم تضحك لي!!.
والجواب: يا أخي الدنيا فيها ناس كثيرة جداً جداً، لا تظلمها، ربما كانت في وقت ابتسامتك لها مشغولة بالردِّ على ابتسامة إنسان آخر... واصل الابتسام يا حاج، ولا تيأس. وعلى رأي عمنا المناضل المصري الكبير مصطفى باشا كامل: "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس".
وستجد في تراثنا العربي من جمع ونشر أخبار أصحاب النكت والفكاهة، ومن أبرز من نشر ذاك هو ابن الجوزي في كتابه "أخبار الحمقى والمغفلين"، وكتابه الثاني "أخبار الظُرَّاف والمتماجنين".
وفي ذاكرة الكتابة والصحافة العربية المعاصرة ستقف على أدباء وظرفاء عاشوا ونشروا في الكتب أو في الصحافة حكايات فكاهية بقصد إمتاع القارئ، غالبهم جاؤوا بها من معايشتهم للحياة... فكانوا كما ملح الأرض، لو غاب أو نَقُصَ لفسدت طبخة الحياة، ولا زلت أتذكر أسئلتهم الفكاهية العجيبة، مثل:
س: هل تعرف أين يُفرش بساط البحث؟
س: هل تعرف من أين تؤكل الكتف؟
الحاصل، أن صاحبكم، كان، وما زال، مأخوذاً بقلم الكاتب الساخر محمود السعدني، والتهمتُ تقريباً كل كتاباته الساخرة التي نشرها في كتبه، مثل: "مذكرات الولد الشقي"، و"الولد الشقي في المنفى"، و"تمام يا افندم"، و"الطريق إلى زمش"... إلخ... إلخ... إلخ.
وسُحِرْتُ بتلك الردود الساخرة والانتقادات العاصفة التي هبَّت عندما انقدح فتيل الخلاف بين السعدني وتوفيق الحكيم، فاشتعلت على صفحات الجرائد الردود الساخرة بينهما، ومن ذلك أن توفيق الحكيم لما كتب روايته: "عصفور من الشرق"، ردّ عليه السعدني ساخراً في كتاب سمَّاه: "حمارٌ من الشرق"، ولما نشر الحكيم كتابه: "عودة الوعي"، سخر منه السعدني بأن نشر كتابه الذي سمَّاه: "عودة الحمار".
وكثير من أدبائنا وكُتَّابنا الذين يغلب عليهم الرصانة والثقل، صنِّفَت بعض كتابتهم بأنها كتابة ساخرة من الوزن الثقيل، مثلما حصل مع شيخ العربية محمود محمد شاكر في كتابه: "أباطيل وأسمار"، الذي انتقد فيه لويس عوض وتوفيق الحكيم بسخرية لاذعة.
المقصود؛ أنَّها طريق معتبرة من قديم في النقد، شَقَّها لنا كبار الكتاب والأدباء، ونحن نحاول السير على طريقهم، باحثين عن أسلوبنا الخاص، وطوبى لمن وجد نفسه.
ولا يلتفتنَّ أحدكم لقول من قال: "ماذا ترك الأول للآخِر؟"، بل إننا نقول: "كم ترك الأول للآخِر".
ومع السلامة.
 مختص في التاريخ الحديث ومستشار إعلامي.

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه