أخطاء القادة
بهاء العوام
خطأ كاميرون لا تزال المملكة المتحدة تعيش تداعياته إلى اليوم، ولا أحد يعرف كم من السنوات ستمضي البلاد قبل أن يسترد البريطانيون حياتهم التي كانوا يتمتعون بها قبل قرار الخروج.
بريطانيا دفعت ولا تزال ثمن خطأ بلير في المشاركة بغزو العراق
من لا يعمل لا يخطئ. والخطأ من صفات البشر عموما. ولكن ثمة أخطاء لا يمكن احتواء تداعياتها بمفردات الاعتذار مهما كانت فصاحتها وبلاغتها، وخاصة عندما يرتكبها القادة وتضر بالمصالح العليا للبلاد.
قبل أيام أعتذر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ديفيد كاميرون عن إجراء استفتاء خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016. بعد ثلاث سنوات من الاستفتاء المصيري يخرج كاميرون إلى وسائل الإعلام ليقول إنه فشل وأخطأ في الذهاب نحو ذلك الاستفتاء الذي قلب حال البلاد رأسا على عقب.
هي ليست المرة الأولى التي يعتذر فيها كاميرون عن أخطائه. اعتذر مرات قبلها ولكن أخطاءه كانت صغيرة، لم تلحق الضرر بالبلاد وإنما به فقط. اعتذر كاميرون مرة للملكة عن تسريب موقفها من “بريكست” للإعلام. واعتذر مرة أخرى للبريطانيين عن نسيان اسم فريقه المفضل في كرة القدم.
هل أخطأ كاميرون بطرحه الاستفتاء؟ الجواب نعم. ليس لأن البريطانيين لا يحق لهم تقرير مصيرهم، بل لأن الاستقلالية النسبية التي تعيشها بريطانيا مقارنة بغيرها من دول الاتحاد الأوروبي هي أكثر جدوى من الخروج. خاصة وأن الأوروبيين كانوا منفتحين على تعزيزها لطمأنة لندن خاصة في ملف المهاجرين.
خطأ كاميرون لا تزال المملكة المتحدة تعيش تداعياته إلى اليوم، ولا أحد يعرف كم من السنوات ستمضي البلاد قبل أن يسترد البريطانيون حياتهم التي كانوا يتمتعون بها قبل قرار الخروج. ربما يحدث هذا بسرعة إذا غادروا الاتحاد باتفاق أو ألغي طلاق لندن وبروكسل كما ترغب فيه المعارضة.
وسواء جاءت نهاية مسلسل “بريكست” حزينة بالخروج دون اتفاق، أو سعيدة عبر الاتفاق أو إلغاء الخروج، فإن الاعتذار لن يغفر لكاميرون خطيئته ولا يُعتبر شجاعة يستحق عليها الاحترام. هو مجرد نوع من تأنيب الضمير يصلح لتخفيف العقوبة عنه لو كانت محاكمته أمرا واردا.
تبدو محاكمة كاميرون على استفتاء الخروج مبالغة لا معنى لها عندما تقارن خطيئته بجرم رئيس وزراء سبقه هو توني بلير. الزعيم العمالي الذي شارك الولايات المتحدة في حرب على العراق راح ضحيتها ملايين الناس بين قتيل وجريح ولاجئ، ثم بعد 15 عاما أعتذر بلير للبريطانيين، وليس للعراقيين، عن خطئه.
لم يحاكم بلير على جريمته رغم أن العراق، والشرق الأوسط، لا يزالان يدفعان ثمنها حتى الآن. فقط تسابقت وسائل الإعلام على نشر اعتذاره مع ملامح هرمة لوجه كان يشع حماسة وهو يحث البرلمان البريطاني على غزو العراق عام 2003. لم تعد تظهر على وجهه تلك الابتسامة التي زف بها للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش خبر مشاركة بريطانيا في غزو العراق بحثا عن أسلحة الدمار الشامل.
بريطانيا دفعت ولا تزال، ثمن خطأ بلير في المشاركة بغزو العراق. جنودها قتلوا في الحرب وعائلاتهم تلاحق الحكومة بسبب عجزها عن حمايتهم آنذاك. كمّ كبير من اللاجئين العراقيين، وكمّ كبير من النقمة في الشارع واللاثقة بالنظام السياسي لأن البرلمان والحكومة تجاهلا حينها أكبر تظاهرة رافضة للحرب عرفتها البلاد.
أخطاء كاميرون وبلير هي الأكثر فجاجة وضررا في تاريخ بريطانيا الحديث. لقد تحولت إلى وصمة عار تلاحق حزبيهما. الزعيم العمالي الحالي جيريمي كوربين وجد نفسه مضطرا للاعتذار عن خطأ حزبه في غزو العراق رغم مرور أكثر من 15 عاما. أما بوريس جونسون فلا يزال غارقا وحزبه، حزب المحافظين، في آثار خطيئة كاميرون بعد مرور ثلاث سنوات على الاستفتاء المصيري.
إن كوربين وجونسون نفسيهما ارتكبا أخطاء بحق فئات من البريطانيين واعتذرا عنها. زعيم حزب العمال اعتذر عدة مرات عن تمدد معاداة السامية في حزبه. أما جونسون فقد اعتذر للمسلمين عن تشبيه المنقبات بصناديق البريد. لم تجلب هذه الأخطاء ضررا للبلاد ولم تسجل نقطة سوداء في تاريخها. فتابع كل من الزعيمين حياته السياسية وكأن شيئا لم يكن، حتى أن جونسون وصل إلى رئاسة الوزراء وكوربين بات يقود اليوم حرب “بريكست” ضد الحكومة.
يمكن القول إن أخطاء كوربين وجونسون كانت صغيرة، وهذا النوع من الأخطاء يعجّ به التاريخ السياسي البريطاني ولطالما تبعته اعتذارات من مرتكبيها. حال بريطانيا في هذا هو حال جميع الدول المتقدمة والديمقراطية. الساسة يخطئون ويعتذرون عن أخطائهم، لأن الشعب سيحاسبهم في كل دورة انتخابية للبرلمان أو الرئاسة. وعندما ترتكب خطأ بحجم ما فعله كاميرون وبلير فحريّ بك أن ترحل بمفردك. لأن الناس قد يقبلون اعتذارك يوما، ولكنهم لن يغفروا لك أو يثقوا بك ثانية مهما حدث.
صحافي سوري