وافدون إلى البصري: اللغة وعتبات التحليل
شرف الدين ماجدولين
الكتاب في النهاية بمثابة عينة تحليلية عمّا يمكن أن يشكل جسرا بين عوالم الكتابة والتشكيل، التي أوجدت لها عبر التاريخ تجليات متباينة.
الكتابة عن التشكيل ليست اختصاصا فقط
لم يجابه يوما الرسام بول سيزان رفيقه إيميل زولا بكونه مجرد روائي يتقن صوغ العبارات، ولا دراية له بالتشكيل، ولم ينصحه بالتوقف عن كتابة آرائه عن رفاقه الانطباعيين الفرنسيين، خصوصا مانيه الذي صرف في قراءة أعماله وقتا وجهدا جليلين، فالألفاظ والأسطر والفقرات في الكتب، لا علاقة لها بالألوان والكتل والضياء في اللوحات.
كان من المسلم به منذ البداية أن التشكيل حرفة فنانين لكن الكتابة عنه عمل أدباء، ففي النهاية كل تأليف لمفردات يخضع لبرهنة منتجة للمعنى يجب أن يكون وليد معرفة بصنعة الكتابة، ومن ثم لم يتساءل يوما رمسيس يونان ولا كامل التلمساني عن جدوى حضور روائي كسول معهم هو ألبير قصيري يحشر نفسه في كل نقاش عن عملهما، كما لم ينهر جياكوميتي جان جينيه حين دوّن انطباعاته عن منحوتاته ومشغله، وهو الكاتب الذي لا يعرف كيف يمسك فرشاة.
أسوق هذه المقدمة لتحليل مقولة باتت رائجة، في الآونة الأخيرة، لدى صنف من التشكيليين، عن نقاد الفن الذين لا تستهويهم كتاباتهم، معتبرين إياهم غرباء عن الخطاب البصري، وأنهم وافدون من حقل الأدب، وهو الاتهام النابع من افتراض أن المشتغل بالأدب والباحث في حقوله والناقد لأجناسه، ليس بمقدوره فهم وقراءة الأعمال الفنية، وإن “تطاول” عليها فهو حتما سيخلط بين المعايير اللفظية والبصرية، مثلما سيبحث عن معاني الألفاظ في الألوان والأحجام والتخطيطات؛ وهو اتهام فيه استعلاء مقيت، بقدر ما ينطوي على ضمور معرفي ظاهر، إذ لا يخفى أن أغلب من ينطلق من قاعدة هذا الوهم يفوته التنبه لثلاثة مرتكزات أساسية تتصل بآليات القراءة ووظائف التأويل، ومكونات الخطاب بشتى مقاماته اللفظية والبصرية.
ولعل أول المرتكزات ذلك الذي يفترض أن جمهور الفن والمنشغلين بأسئلته، والساعين إلى ترجمة ذلك الانشغال في نصوص وتحليلات نقدية، هم في شق كبير منهم مشتغلون بفنون تعبيرية أخرى لفظية وبصرية، من السينما إلى التلفزيون ومن الرواية إلى المسرح، جنبا إلى جنب مع المشتغلين بالفلسفة والعلوم الإنسانية، والحق أنه لسنوات طويلة لم يكن ثمة باحثون في مختلف أنحاء العالم مختصون بالفنون البصرية على نحو صرف لم يفدوا إليها من حقول أخرى، من قبل أن تنشأ تدريجيا تقاليد أكاديمية تجعل من مسألة الاختصاص في نظرية الصورة والجماليات البصرية وتاريخ الفن وتحليل الأعمال الفنية والنقد الفني اختصاصات ممكنة، ومع ذلك فلم يطالب مختص في تاريخ الفن السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو بأن لا يكتب عن “المعمار الباروكي”، لأنه باحث في الرواية، كما لا يستنكر باحث في نظرية الصورة أن يكتب رولان بارث عن الفوتوغرافيا، ولا أن يكتب أورهان باموك عن اللوحات العثمانية. مثلما لم يطالب أحدهم يوما إدوارد سعيد بأن يكف عن تحليل الأعمال الموسيقية وأن يكتفي بما بين يديه من نصوص روائية.
القول إن دارسي الأدب لا يمكنهم الكتابة في النقد التشكيلي قول تنقصه المعرفة وهو تجن كبير على الأدباء
تفضي هذه المحصلة إلى المرتكز الثاني في واقع القراءة والتأويل وهي أن الدراسات البلاغية والسيميائية المعاصرة استثمرت منجزها في تحليل الخطاب الأدبي لدراسة الظواهر الخطابية الأخرى ومنها الخطاب البصري، من الإشهار إلى السينما، وهو الدرس الذي نشأ وتطور أساسا داخل أقسام الدراسات الأدبية ولظروف تاريخية وثقافية خاصة ستكون أنوية الدراسات الجمالية نابعة من اجتهادات عدد كبير من الباحثين في تلك الأقسام، وغير خاف أن في المغرب مثلا كانت شعبة الدراسات الفرنسية رائدة في الدراسات المنصبة على تاريخ الفن في المغرب.
أما المرتكز الثالث فيتعلق أساسا بجوهر “الأثر”، فنحن نتلقى اللوحات والمنحوتات والتركيبات وأعمال الفيديو، وقد نفهم أو لا نفهم تلك المقترحات الفنية، ويحتمل أن نتحدث عنها بشكل خاطئ، لكن من هو صاحب الحق في أن يحكم على طبيعة فهمنا ويصنفه ويقيمه؟ هل الفنان ذاته؟
أظن أنه ليس من حقه ولا من واجبه أن يعمم فهمه الخاص، ومن ثم رؤيته لتأويلات وقراءات الآخرين، ما دام أن التعبير بالنسبة إليه يتجسد في وسيط غير لفظي، فليترك قواعد التقييم للمشتغلين ببلاغة الخطاب جملة.
وأخيرا يمكن أن نتحدث اليوم عن صنف من الدراسات يسعى إلى أن يتجاوز أفق الاختصاص الضيق، وأن يعبر بخفة بين الاختصاصات، حيث تكون الرواية أفقا لقراءة التشكيل، والتشكيل مَعبَرا لقراءة الفيلم السينمائي، والقصيدة جسرا لقراءة منحوتة آو صورة فوتوغرافية.
في كتاب للباحث الفرنسي جيروم غيم بعنوان “عن الأثر: ما يقدمه الفن المعاصر للأدب” صدر سنة 2011، تحدث عن المتاحف بوصفها “مختبرات للكتابة”، ليس فقط بالنظر إلى ما تقدمه من موضوعات وأفكار ملهمة للبدايات، ولكن أيضا بالنظر لما تنضح به كل تحفة من دلالات تختزل سرديات كاملة، في هذا الكتاب يعود المؤلف إلى فكرة الحياة المشتركة بين الكتّاب والفنانين ضمن حلقات وجماعات ثقافية، كما يعود إلى قاعدة العمل ضمن إقامات فنية تشتمل على ورشات مشتركة أدبية/ فنية، ويبدو الكتاب في النهاية بمثابة عينة تحليلية عمّا يمكن أن يشكل جسرا بين عوالم الكتابة والتشكيل، التي أوجدت لها عبر التاريخ تجليات متباينة.
كاتب مغربي