أبوالجماجم

بقلم ميموزا العراوي آب/أغسطس 26, 2016 857

   
أبوالجماجم
ميموزا العراوي
ليس لقب “أبوالجماجم” لقبا حركيّا أو ينتمي إلى إحدى شخصيات المافيا العابرة للقارات، هو لقب أحب أن أطلقه على الفنان البريطاني المعاصر المثير للجدل، دامين هرست، والذي أنتج منحوتات تمثل جماجم بشرية، أشهرها تلك الجمجمة العائدة إلى أحد البشر الذين سكنوا رحاب القرن الثامن عشر، والتي قام بترصيعها سنة 2007 بأكثر من ثمانية آلاف حبة ألماس كتعبير عام عن تفاهة الحياة.
أما العنصر المساهم في إنجاح تلقيبي له بـ”أبوالجماجم” هو ليس لأن الفنان الغرّ شكّل بتدخله الفني القيمة المُضاعفة للألماس، حيث بيعت بمئة مليون دولار، بل لأنه تبين لاحقا أن الفنان شارك مع مجموعة من المستثمرين في شرائها لنفسه بهدف رفع أسعار أعماله الفنية الأخرى.
ليس في ذلك أي احتقار للفنان، بل إعجاب شديد بقدرته كأي فنان ناجح على عكس قيم عصره دون أي عصر من العصور، علما أن إحدى أهم قيم عصرنا هي تمجيد غير مسبوق للمال.
ثمة فرادة أخرى تميّز بها الفنان وتستحق لفت النظر إليها، وهو أنه اشتهر بأقواله المتناقضة حول فنه وحول ما يريد الإشارة إليه، لا بأس في ذلك، ألم يقل الفنان الفرنسي مارسيل دوشان، رائد الدادئية “ليس هناك من فنان يعرف من هو، أو يعرف ماذا يصنع”، هذا القول يصبّ أيضا لصالح فن داميان هيرست الشبيه بنافورة ماء معاصرة تبغي الظهور مهما كان الثمن.
إنجازات الفنان دامين هيرست هي أيضا بفنيتها الخاصة جدا انعكاس للضياع الذي يعيشه إنسان العصر، أو ربما يجدر القول إنها انعكاس لحصيلة مكثفة من ضياع إنسان العصر.
دامين هرست هو مُمثل المعاصرة ليس فقط لأنه يتمتع بعبقرية تسويقية أكثر من أي عبقرية أُخرى، بل لأن فنه يجيء كصدى لكلام مارسيل دوشان، اللامع في كلماته المأثورة حين قال “الفن هو الحلقة المفقودة وليس الرابط الموجود بين الحلقات، ليس ما تراه هو الفن، ولكن الفن يكمن في ما لا تراه”. قصد دوشان في كلامه هذا أن الفن هو الفراغ الكامن بين الأشياء حيّة كانت أم جمادا.
الحقيقة أن الفنان دامين هرست ركز أيضا على "الفراغ"، ولكنه فراغ نبت بشكل فطري مسلوخ عن أي خلفية فكرية نشأت كردة فعل عن كارثة بشرية بحجم الحروب العالمية، هذه أيضا فرادة لصالحه ولصالح فنه الأخاذ والذي به “أُخذ” وتأثر فنانون عرب كثر.
وإذا كان ”الريدي ميد” الذي اقترن باسم مارسيل دوشان نابع من اشمئزاز من الحرب العالمية ونتائجها وفساد القيم البرجوازية، التي برأي مارسيل دوشان هي أساس فنه وفن “الدادائيين”، ففن دامين هرست نابع من مستنقع الفساد، الفساد المعاصر، لذلك هو بدوره فن رائع يجب التوقف عنده والتأمل فيه وفي تداعياته الظاهرة وتلك التي سيتوالى ظهورها في المستقبل القريب.
يمكن مقاربة الفنان دامين هرست بالنافورة النشيطة التي تكرر مياه المستنقع الذي يعج بكافة أنواع الحشرات الهجينة منها والأصلية، ليس في ذلك أي تعد على فن دامين هرست بقدر ما هو تقدير لعملية تظهيره لما يكمن من جراثيم وحشرات خبيثة في ذلك المستنقع.
في هذا السياق نذكر عمل دوشان الشهير، المنطلق من مانيفستو تشارك فيه شعراء وموسيقيون وأدباء وفنانون ومفكرون من عصره، نذكر عمله “الينبوع”، عبارة عن مبولة، لم يقدم دوشان إلاّ على تبديل وضعها من عمودي إلى أفقي.
بين “ينبوع” الفرنسي مارسيل دوشان و”نافورة” الأميركي دامين هرست يكمن سر من أسرار العالم المعاصر، ليس هذا الكلام من قبيل التهجم على فن هرست، بل هو في معرض السباحة في مائية العالم اللزجة بحثا عن قارب متين يذهب بنا بعيدا إلى شاطئ آخر، أو إذا لم يحالفنا الحظ، يذهب بنا إلى عين المصدر الذي منه تدفقت كل تلك الينابيع المُميزة تميّز فن دامين هرست.
ناقدة من لبنان
   

سراب/12
           

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه