أخطر سؤال يمكن طرحه
أبو بكر العيادي
العلم والفلسفة عاجزان بقدر كبير عن تخفيف استيائنا وعدم رضانا من الأجوبة خاصة لسؤال "لماذا".
تفكير خارج حدود المعقول
درج الإنسان على طرح كل الأسئلة التي تعكس حيرته أمام تجليات الواقع، بحثا عن إجابة قد تكون مقنعةً لِلحظة، ثم تتناسل على إثرها أسئلة أخرى ولّدتها معطيات مستجدة. وإذا كانت الفلسفة منذ القدم تحتفي بالأسئلة أكثر من احتفائها بالأجوبة حتى قيل إنها فنّ الأسئلة، فإن البشر، بلا استثناء، حتى الأطفال منهم، لا ينفكّون يوجّهون السؤال تلو السؤال، سعيا إلى فهم بعض الظواهر.
قد تكون الأسئلة بسيطة، ولكن أكثرها استعمالاً تكاد تنحصر في “أين؟”، “متى؟”، “كيف؟” وخاصة “لماذا؟” هذا السؤال نجده في قضايا المحاكم، وفي الاكتشافات العلمية، والمراجعات التاريخية، والتأملات الميتافيزيقية، والتحاليل الصحافية، مثلما نصادفه في حياتنا اليومية، دون أن يحمل دائما الدلالة نفسها. والطريف أن هذا السؤال يفتح على أجوبة متعددة، فأحيانا نبحث من خلاله عن السببية، وأحيانا نريد من ورائه تبرير معتقد أو قناعة، وفي أحيان أخرى نحاول أن نفهم سلوكا ما.
فهل لهذا التعدد في المعنى مرجعية مشتركة؟ وهل تتساوى كل الأسئلة المماثلة؟
من بين الأسئلة التي تمثّل أكثر أنماط التساؤل عمقا واستعمالا لكل من يرغب في فهم العالم، واكتشافه نجد “ماذا؟” وخاصة “لماذا؟” الذي يسكن حيرتنا الميتافيزيقية ومشاغلنا العملية. ومن عجب أن من بين الكلمات الكثيرة التي تسائل العالم، يبدو “لماذا” أكثرها استعصاء على الإمساك، فهو في صميم الثورة العلمية من غاليلي إلى ديكارت، قبل أن ينفتح على الجدل القائم بين أنصار “كيف” الذي تستعمله الفيزياء و”لماذا” القريب من الميتافيزيقا. لماذا ننام؟ لماذا نعمل؟ لماذا لا نحسّ بدوران الأرض؟ لماذا نرتاد الفضاء؟ لماذا نضحك؟ لماذا نتفلسف؟ لماذا نصادر الفكر الحرّ؟ لماذا نعاقَب؟ لماذا لا نعيش أبدا؟… وما إلى ذلك من أسئلة لا تنتهي على مدار اليوم والساعة، وتطغى على بقية الأسئلة حينما يغدو هدف التساؤل غاية نظرية لا تطبيقية. وكلها أسئلة تعبّر عن حلم قديم استبد بالإنسان، حلم حيازة معرفة لا تترك أيّ “لماذا” دون إجابة.
هذا السؤال العجيب هو موضوع كتاب بعنوان “لماذا؟ سؤال لاكتشاف العالم” يستدعي فيه مؤلفه فيليب هونمان الباحث المتخصص في فلسفة بيولوجيا التطور، العقلانيةَ الكلاسيكية التي مثلها ديكارت وسبينوزا وليبنتز، وحتى الأميركي ديفيد لويس أحد الوجوه البارزة في الفلسفة التحليلية المعاصرة، ليتصور نوعا من كونية مبدأ العقل مفاده أن ليس من العبث أن نتخيل أن كلّ عبارات “لأنّ” مرتبطة ببعضها بعضا، وأن كل التفسيرات يمكن أن تلتقي، فالأسباب المرتبطة بنتائجها، والأحداث المتصلة بآثارها يمكن أن تكون من نفس الجنس.
غير أن هونمان، سيرا على خطى كانط وهيوم ودراسات العلوم (وهو حقلُ بحثٍ متعدّدُ المجالات يهدف إلى الإبانة عن الاشتغال الملموس للعلوم وتمفصلها مع بقية المجتمع، بالاستناد إلى علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأنثروبولوجيا والتاريخ ومجالات أخرى من العلوم الإنسانية) ينتقد نزوعنا إلى دفع السؤال “لماذا؟” خارج حدود المعقول.
والمفارقة أن البحث عن المعنى لا تلبّيه كثرة الأسباب وحدها، ما يحملنا على تخيل تفاسير شمولية، متسمة بالمثالية، ولكنها عبثية أو لا يمكن التأكّد من صحّتها. فهل يمكن التخفيف من استيائنا وعدم رضانا من الأجوبة؟ في هذه النقطة يعترف هونمان أن العلم والفلسفة عاجزتان بقدر كبير عن تحقيق ذلك، لأن كل مقترح ميتافيزيقي يمكن أن يقيَّم حسب تكاليفه وأرباحه الإبستيمولوجية، دون أن يدّعي أنه يمثل نظرية فريدة ونهائية عن سببية كل شيء.
وقد لاحظ المؤلف أن ذلك السؤال يستدعي علم تركيب الكلام قبل الدخول في الفروق التي يمكن أن توجد بين مختلف المعاني، والوقوف على حدودها، لأنه سؤال لا يؤدّي حتما إلى إجابة ما، حتى ليحقّ لنا أحيانا أن نتساءل عن جدوى طرحه، أو أن يوحي غياب الجواب كما في نظرية المؤامرة بوجود شيء يقع التستر عليه لغايات مضمَرة.
ولعلّ أهمّ ما في الكتاب أن مؤلفه عاد يستقرئ تاريخ الفلسفة بكل تياراتها ليجيب عن أسئلة كثيرة، منها ما هو كوني عامّ، ومنها ما هو فريد محدّد يخصّ مسائل بعينها، سبق للفلاسفة أن حاولوا الإجابة عنها، ليبين أن التفسير والفهم أمران متباينان. فأن نفسّر شيئا ما معناه أن نحاول إيجاد سبب، وبالتالي إدراجه ضمن قانون من قوانين الطبيعة. أما أن نفهم فمعناه أن نمسك بالواقع من وجهة نظر البشر التي نحن بصدد درسها، وكذلك أن نعرف كيف نعيد تشكيل مرجعياتهم في الفترة التي قضوا فيها حياتهم والمجتمع الذي انتموا إليه. ما يساعد على الاقتراب قدر الإمكان من وجهة نظر الفاعلين في العصور الغابرة.
كاتب تونسي