"مريم المصرية" بعيدا عن النصوص قريبا من الناس
حميد سعيد
الاهتمام بتفاصيل علاقة السيدة العذراء بمصر، ظل مستمرا رغم مرور القرون وتغير الأحوال، عند المسلمين كما عند المسيحيين.
مريم العذراء في التراث القبطي لمصر
في كتابه “مريم المصرية، رؤية أخرى للسيدة العذراء” يعمد الكاتب المصري محمد الباز، إلى أن يقدّم في رؤيته هذه، السيدة مريم العذراء بعيدا عن النصوص الدينية، وهي كما نعرف كان لها حضورها في الكتب الدينية، القرآن الكريم والعهد القديم والعهد الجديد، ولكل منها نصوصه التي تفصح عن رؤية خاصة به عن السيدة مريم.
غير أنه بحصافة ووعي لم يمس أيا من هذه الرؤى، بل لقد أشار إلى بعض منها بشيء من التفصيل حينا وبالتلميح حينا آخر، وحاول بكثير من المتابعة الدقيقة أن يتناول حضورها في حياة المصريين، وخاصة المسلمين منهم، من دون أن يتجاوز حضورها في حياة المسيحيين المصريين. واجتهد المؤلف في أن يحيل هذا الحضور إلى عامل تاريخي، وتحديدا إلى رحلتها مع ولدها ويوسف النجار إلى مصر، هرباً من الملك هيرودوس الأول الذي كان يقتل الأطفال اليهود ممّن هم دون العامين من العمر، استهدافا لطفلها/ المسيح.
يقول المؤلف “جاءت السيدة العذراء هاربة وقلقة ومتوترة، تضم وليدها الصغير إلى صدرها، علها تحميه من الموت الذي يرفرف من حوله، وسعى خلفه ليحصد حياته التي لم تكن زهورها تفتحت بعد، ولأنها خائفة بما يكفي، فقد أحاطها المصريون، ليس برعايتهم وحمايتهم فقط، ولكن بحبهم أيضا”.
ويقول عن المصريين الذين استقبلوا السيدة وكرّموها، “إنهم في النهاية أجدادنا، نفتقد اسمهم ورسمهم، لكن ما فعلوه معها يبقى ميراثا لنا، نتحرك به تجاهها حتى الآن، لا ننساه ولن ننساه”.
وهذه الرحلة لم تغب عن تاريخ مصر في جميع العهود التي مرت بها، واستمر المصريون يذكرون ما عرفوا من تفاصيلها وما اقترن بها من أحداث، صغيرة كانت أم كبيرة، حيث يشير إليها المؤرخ المصري أبوالعباس تقي الدين المقريزي الذي ولد في القاهرة سنة 1364 وتوفي فيها أيضا سنة 1442. وما يمنح إشارته إلى هذه الرحلة أهمية، كونه عرف باهتمامه بالتاريخ الاجتماعي للشعب المصري، وعادات الناس وتقاليدهم.
وممّا قاله عن الرحلة التي نحن بصددها “إن العائلة المقدسة حطت رحالها عندما قدمت إلى مصر، بالقرب من عين شمس ناحية المطرية وهناك استراحت إلى جوار عين ماء، غسلت فيه ثيابها وثياب طفلها الصغير”.
ولهذا التناول معنى آخر، هو أن الاهتمام بتفاصيل علاقة السيدة العذراء بمصر، ظل مستمرا رغم مرور القرون وتغير الأحوال، عند المسلمين كما عند المسيحيين، لذلك فهي في رؤية محمد الباز، هي مريم المصرية، لا مريم المسيحية ولا مريم المسلمة. فهي في الفكر الشعبي المصري تشفع لهم جميعا وهي أم النور عندهم جميعا وجميعهم يسمون بناتهم باسمها.
وهي عند المسيحيين تتجلى عندما تضيق الدروب بصغارها، فتلهمهم الصبر على ما يلاقونه وتبعث لهم برسالة يتلقفونها عنها بحب وود وحنان. فهي موجودة تحنو على الضائعين وتجبر خاطر المكلومين. وعند المسلمين هي سيدة نساء العالمين، لها سورة باسمها في القرآن الكريم، المرأة الوحيدة التي نالت هذه المنحة الإلهية.
وفي حالات التجلي يقف الجميع في انتظارها، كما نقل إلينا المؤلف ما شاهده في كنيسة الوراق في العام 2009، فلا فرق بين مسلم ومسيحي، وعندما تطل في وجوههم لا تستطيع أن تفرّق مسلمهم عن مسيحيهم، فالمسيحيون يردّدون تراتيلهم والمسلمون يقرأون سورة مريم.
ويقول “إن حالة من التماهي، تجمع بين المصريين والسيدة مريم، فكلاهما توفر على تاريخ من الأسى، وهذا الأسى هو الذي يجمع بينهما، وهم ينادون السيد البدوي والقنائي والشاذلي وفي لحظة يأس كبرى، ينادونها يا عذرا، ومن ألقابها في مصر، سلطانة الأرض والسماء”.
إن كل ما أشار إليه الباز في كتابه عن الموقف الشعبي المصري من السيدة مريم العذراء والعوامل المؤثرة فيه، لا شك في أنه يفصح عن موقف موضوعي. لكنه أعادني شخصيا إلى مرحلة مبكرة من صباي وإلى جانب من الحياة الاجتماعية في مدينتي وفي الحي الذي ولدت ونشأت فيه.
فلم يكن الموقف الشعبي من السيدة مريم يختلف كثيرا عمّا هو عليه الموقف الشعبي في مصر، مع أن التركيبة الاجتماعية للمدينة لم تضم مسيحيين، والذين كانوا فيها من الموظفين وبعض الحرفيين وجميعهم جاءوا من مدن أخرى، من بغداد والموصل والبصرة وغيرها، غير أنهم بما كانوا عليه من إخلاص في عملهم الوظيفي والمهني ومن التزام اجتماعي وسلوك حضاري، فهم موضع احترام أبناء المدينة وتقديرهم.
في تلك المرحلة شاعت أغنية شعبية، كتبها وغناها شاعر شعبي، إذ كان يحب فتاة اسمها ليلى، فقال فيها “ليلى مريم العذرا، شما توصف يلوك إلها”، أي أنها مثل مريم العذراء، جميع الأوصاف الطيبة تليق بها. واستمعت إلى الكثير من الرجال والنساء يرددون هذه الأغنية، وحين أصبحت شابا وتعرّفت على الشاعر المطرب، حدثني قائلا “لقد وصلتني هدية بسبب هذه الأغنية من إحدى الكنائس في بغداد”.
وعرفت أيضا أن النساء المسلمات في بغداد وفي غيرها من مدن العراق يذهبن إلى الكنائس القريبة من بيوتهنّ ويوقدن شموعا للسيدة العذراء، أما في مدينة الموصل، فإن الاحتفالات الكنسية بالقديسين طالما تحوّلت إلى أعياد لجميع أبناء المدينة. وقد عبر الجواهري عن هذه الرؤية الشعبية للسيدة مريم في قوله “وإن البغي التي تدَّعي/ من الطهر ما لم تحز مريمُ”.
لكن الاحتفاء بالسيدة مريم في المجتمعات الإسلامية، ليس مجرد احتفاء شعبي من دون مؤثر ثقافي ديني، وهذا ما أشار إليه الباحث الفرنسي ميشيل دوس في قوله “إن صورة السيدة مريم في القرآن، ليست أقل تمجيدا، منها في الأناجيل”.
وهذا ما يذكرنا به المؤلف، إن الملحدين من جميع الأديان، نال منهم قسط كبير من الهجوم والتطاول والسباب والسخرية، والاتهام أيضا. ولا أريد هنا أن أتوسع في ذكر مقولات ميشيل دوس، لأنها قد تقودني إلى منطقة حوار الأديان وهذا ما لا أريده، ولأنني غير مؤهل للخوض فيه.
كاتب عراقي