"دجو"
حكيم مرزوقي
أنت لست غريبا في منزل الجيلاني، فبإمكانك أن تنتبذ مكانا قصيا، تستمع فيه إلى الموسيقى ولا تحادث أحدا.. إنها جزيرة ديمقراطية تواجه وتقارب مقبرة الأجانب في مدينة تونس.
الزجال الليبي محمد الدنقلي من أصدقاء "دجو"
من لا يعرف “دجو”، لا يعرف كل صعاليك الشعر والفن والثقافة في تونس والعالم العربي.
يجمع في بيته المطل على “مقبرة الأجانب والغرباء” في أحد أحياء مدينة تونس الحديثة، جميع من تسوّل له نفسه التطاول على المسلّمات والبديهيات والكليشيهات.. وأدعياء الحداثة والتأصيل، على حد سواء.
إنه “الجيلاني”.. ليبي المنشأ والأصل، تونسي المزاج والذوق.. رجل الأعمال الذي لا يحب العمل كثيرا، ويدمن الفن والثقافة ومجالسة الشعراء، وأبناء السبيل، ومن ضاقت بهم الأحوال والسبل.
فقد الجيلاني ابنه في الحرب الليبية، وكاد أن يفتقدني ـ شخصيا ـ في حادث مروري كلفه تعويض حوضه العظمي بآخر اصطناعي، لكنه ظل يدعي بأن “الحياة جميلة، وجديرة بأن تعاش”.
الجيلاني، يعرفه ويحبه كل الخارجين عن المألوف في العالم العربي، يقصدون بيته مغمضي العيون، وكأنهم يعودون إلى ديارهم.
يتجوّلون في مطبخ منزله بمنتهى الطلاقة والرشاقة والارتجال.
يشاهد أهالي طرابلس وبنغازي، من الوافدين أخبار بلادهم على شاشة تلفزيونه، ينظرون إلى الجيلاني، يأكلون “البازين” و“الرشتة” و“الكسكسي” على نفس المائدة، ولا يكترثون.
كان يجتمع على طاولة الجيلاني، في بيته الدافئ الوديع، الفنان المصري محمود حميدة، الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد، والملحن سمير العقربي، الروائي والإعلامي اللبناني أحمد علي الزين، الزجال الليبي محمد الدنقلي.. بالإضافة إلى سياسيين وكتاب آخرين من مختلف الملل والنحل والاتجاهات والمزاجيات.
أنت لست غريبا في منزل الجيلاني، فبإمكانك أن تنتبذ مكانا قصيا، تستمع فيه إلى الموسيقى ولا تحادث أحدا.. إنها جزيرة ديمقراطية تواجه وتقارب مقبرة الأجانب في مدينة تونس.
كل الذين جاؤوا إلى هذا البيت، عادوا إليه، ولو في غياب صاحبه، ذلك أن بإمكان فنان عربي أن يقول لزميله “نلتقي عند الجيلاني، حتى ولو كان غير موجود”. قد ينتقدني البعض على هذه الشخصنة في الكتابة، ويتهمني بالدعاية والإشهار، لكن الجيلاني، الذي لن أذكر لقبه الصريح، لا يعني له الأمر شيئا، بل سينتقدني مثل حادثة الرجل الكذاب الذي نزل ضيفا عند حاتم الطائي.
سأله الطائي أين كنت؟ قال عند الطائي.. وطفق الضيف يعدد مكارم حاتم، ويبالغ حتى أوقفه الأخير بكلمته “هل تعلم أني أنا حاتم؟”.
ثم أردف الرجل الكريم طالبا من ضيفه، “لن أطعمك ولن أسقيك شيئا.. اذهب وقل لمن يلاقيك بعد اليوم بأن حاتم لم يسعفني ولو بشربة ماء”.
الكرم هو أن تقنع الناس بأنك لست كريما، والشجاعة هي أن تبدي خوفك من ضعاف الحيلة وصغار النفوس.
“دجو” ليس مجرد رجل يكرم الأدباء ويمعن في العطاء.. هو رجل خجول، لكنه مبدع.. إنه يشبه الفرنسي بول إيلوار، في الحرب العالمية الثانية.
كاتب تونسي