أسئلة حول خيار حلّ السلطة الفلسطينية وبدائله
تحدي المخاطر الناجمة عن خطة الضم الإسرائيلية وخطة صفقة القرن لا يكون بمجرد طرح الشعارات والعناوين، بل إنه يتطلب، أساسا وأولا، طرح الأفكار التي تجيب على أسئلة الواقع المعقد والصعب.
عاد خيار حلّ السلطة إلى النقاش الفلسطيني مجددا، على خلفية اعتزام إسرائيل ضم الضفة الغربية، أو مناطق منها (محيط القدس والكتل الاستيطانية وغور الأردن)، بعد استقرار التشكيل الحكومي الجديد، الذي يترأسه بنيامين نتنياهو زعيم حزب “ليكود”، في إطار نوع من الشراكة مع بيني غانتس زعيم حزب “أزرق – أبيض”، ومعهما بعض أحزاب التيار اليميني، القومي والديني.
وينطلق دعاة هذا الخيار من ضرورة تحميل إسرائيل المسؤولية عن الأراضي المحتلة، بكل جوانبها السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وكشفها على حقيقتها أمام العالم بوصفها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وباعتبار أن خطة الضم تقوّض كل الأوهام المتعلقة بإمكانية استجابتها ولو بمجرد إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع (23 في المئة من فلسطين).
وقد يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن ثمة بعضا من دعاة ذلك الخيار، أي حلّ السلطة الفلسطينية، خاصة من الطبقة القيادية الفلسطينية، يلوحون به فقط، للضغط على إسرائيل وابتزازها، أكثر مما يلوحون به لتطبيقه فعلا. ولعل ذلك يذكّر بمحاولة البعض منهم تبني مطلب الدولة الواحدة (من النهر إلى البحر) لمجرد تخويف إسرائيل، ظنا منهم أن ذلك يحثّها على قبول دولة للفلسطينيين في جزء من أرضهم، لصدّ فكرة الدولة الواحدة التي قد تطيح بفكرة إسرائيل كدولة لليهود. أيضا، فقد شهدنا سابقا، في مرات عديدة، تلكؤ القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، في تنفيذ قرارات دورات المجلس المركزي المتوالية، منذ عام 2015 حتى الآن، والقاضية بمراجعة الاعتراف بإسرائيل بسبب تملصها من عملية التسوية، وإنهاء العمل باتفاقية التنسيق الأمني، وببروتوكول باريس الاقتصادي، إلا أن تلك القرارات لم تنفذ ولو مرة حتى الآن.
الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة منذ ربع قرن، باتت مرتبطة وجوديا ومصلحيا بالمسار السياسي القائم، الناجم عن اتفاق أوسلو وعن اتفاقات التنسيق الأمني والاقتصادي
على أيّ حال فإن خيار حل السلطة ليس عمليا وليس واردا، وليس بتلك البساطة، فضلا عن أنه بحاجة إلى المزيد من الفحص لأسباب عديدة، أهمها:
أولا، لنفترض أنه تم الأخذ بهذا الخيار وتم حلّ السلطة، فما هو البديل الذي سينجم عن ذلك؟ طبعا، في الجواب، لا يمكن لأحد أن يتخيّل أن انهيار السلطة أو حلّها، سينجم عنه قيام سلطة وطنية تدير أوضاع الشعب الفلسطيني وكفاحه ضد إسرائيل بصورة أكثر نجاعة. على ذلك فإن الفلسطينيين في تلك الحال، سيجدون أنفسهم إزاء خيارين. أولهما، أن تأخذ إسرائيل الأمر بيدها، في إدارة الوضع مباشرة، وتحمل تبعاته المختلفة والمكلفة. وثانيهما قيام سلطة، أو عدة سلطات محلية، فلسطينية متعاونة مع الاحتلال، قد يسهّل الاحتلال إقامتها، بالاستناد إلى مراكز القوى المتشكلة في الضفة الغربية، سواء الظاهرة أو النائمة؛ وباعتبار أن الفلسطينيين لم يثبتوا في اختبار حكم أنفسهم بأنفسهم. وبديهي فإن الخيار الثاني هو الأكثر ترجيحا، لأن إسرائيل لا تريد أن تتحمل مسؤولية حكم الفلسطينيين، ولا أن تضع نفسها إزاء سؤال المواطنة، أو إظهار نفسها كدولة “أبارتايد”، ولاسيما أنها تريد الأرض من دون السكان.
ثانيا، في نقاش خيار حل السلطة ما هو المطلوب بالضبط؟ أو كيف ستحل السلطة نفسها؟ أو هل ثمة قوى فلسطينية قادرة على ترجمة هذا الخيار؟
هذه أسئلة على غاية من الأهمية. فعدا عن الجانب الأول الذي تحدثنا عنه سابقا، فإن دعاة خيار حلّ السلطة لم يوضّحوا إن كان مطلوبا من السلطة الفلسطينية حلّ نفسها بنفسها، وهو أمر مستبعد تماما، لأن الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة منذ ربع قرن، باتت مرتبطة وجوديا ومصلحيا بالمسار السياسي القائم، الناجم عن اتفاق أوسلو وعن اتفاقات التنسيق الأمني والاقتصادي، وهي لم تهيئ نفسها ولا شعبها لانتهاج خيار آخر، بل إنها لا ترى نفسها في أي مكان آخر. وللتذكير فإن المرة الوحيدة التي تم فيها الخروج عن هذا السياق تمت في زمن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبوعمار)، ولاسيما في رفضه إملاءات إسرائيل والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في كامب ديفيد2 عام 2000، وفي اندلاع الانتفاضة الثانية بعدها، لكن أبوعمار فعلها بحكم رمزيته وبواقع مكانته عند شعبه، ولا يوجد اليوم ما يفضي إلى مثل تلك التجربة، بما لها وما عليها؛ هذا من جهة.
المطلوب طرح أفكار من خارج الصناديق المغلقة، والمفاهيم والبديهيات الجاهزة، التي تم الاعتماد عليها منذ أكثر من نصف قرن من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية
من الجهة الثانية، إذا كانت السلطة لا يمكن أن تحلّ نفسها بنفسها، على نحو ما ذكرنا، فهل دعاة حلّ السلطة يستطيعون إجبارها على ذلك أو تكوين الكتلة الشعبية التي بإمكانها فرض ذلك؟ والفكرة هنا أن كثيرا من الأفكار الصحيحة يمكن طرحها ولكن للأسف لا توجد قدرة على ترجمتها، ولا ديناميات تدفع إليها، حتى في ما هو أقل من حل السلطة. هكذا مثلا لم تتبلور قوى، أو حالة ضغط شعبية، لإنهاء الانقسام الفلسطيني، أو لفرض الانتخابات الرئاسية والتشريعية، أو لإنهاء حال المحسوبية والفساد في بنى السلطة والمنظمة، أو على أي صعيد كان.
قصارى القول، فإن تحدي المخاطر الناجمة عن خطة الضم الإسرائيلية وخطة صفقة القرن، لا يكون بمجرد طرح الشعارات والعناوين، بل إنه يتطلب أساسا وأولا، طرح الأفكار التي تجيب على أسئلة الواقع المعقد والصعب، في ضوء الإمكانيات والظروف الراهنة، داخليا وخارجيا.
وفي هذا الخصوص فإن المطلوب طرح أفكار من خارج الصناديق المغلقة، والمفاهيم والبديهيات الجاهزة، التي تم الاعتماد عليها منذ أكثر من نصف قرن من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية، وأوصلت الفلسطينيين إلى هذا الحائط. مطلوب أفكار يمكن ترجمتها للمراكمة عليها في الواقع. مثلا، قد لا يتوفر للفلسطينيين في الظروف الراهنة صدّ هذه الخطة أو تلك، لكن بالتأكيد لديهم القدرة أو جزءا منها، على إعادة بناء البيت الفلسطيني، على أسس جديدة، لأن ذلك هو الأساس أو الرافعة، لأي عملية استنهاض للشعب الفلسطيني.
كاتب سياسي فلسطيني