أزمات كورونا في بريطانيا
بهاء العوام
أفلحت حكومة المحافظين في تجنيب بريطانيا سيناريوهات فجة مثل إيطاليا وإسبانيا، ولكنها لم تستطع وقف أعداد الوفيات التي وصلت بها المملكة المتحدة إلى المرتبة الأولى أوروبيا.
أمام تحديات غير مسبوقة
ما خرج به رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، مؤخرا حول الخطة التدريجية لرفع إجراءات الإغلاق في البلاد يفضح حذراً كبيرا إزاء حدوث موجة ثانية من الجائحة، وخوفاً من استمرار أزمتها إلى وقت طويل. تتشارك حكومة لندن هذه المخاوف مع كثير من الحكومات حول العالم، ولكن لتجربة المملكة المتحدة في إدارة أزمة الوباء خصوصية تستوجب المزيد من التدقيق والانتباه. حتى لو تحملت خزينة الدولة بعضاً من التكاليف التي يراها البعض اليوم مبالغة لا تبيحها ضرورة.
لم توفق بريطانيا في تعاملها مع كورونا في بداية تفشي المرض. كانت تريد تطبيق نظرية مناعة القطيع بوصفها الأكثر ضماناً والأقل كلفة. ولكنها سرعان ما اكتشفت أن مثل هذا الخيار سيجر كوارث على البلاد. فالوباء يتمدد بتسارع يمكن أن يتسبب بإصابة ملايين البشر خلال فترة قصيرة، وهو ما لا يقوى على تحمله نظام الرعاية الصحية في المملكة المتحدة. خاصة وأنه يئن تحت وطأة التقشف الذي لازمه على مدار أكثر من عقد في عهد المحافظين.
ثمة من همس في أذن بوريس جونسون بأن مناعة القطيع تحتاج إلى بلاد لا تستورد أدوات الحماية الطبية على الأقل؛ دولة تستطيع بنيتها التحتية الصحية أن تستوعب عشرات الآلاف من المرضى بأجهزة تنفس صناعي، دون أن تضطر الحكومة إلى تحويل أرض المعارض لوحدة عناية مركزة. من حسن حظ البريطانيين أن جونسون أصغى للنصيحة وغيّر أولوياته في مواجهة الوباء. لو لم يفعل لكانت رائحة الجثث تفوح من كل مكان في البلاد الآن.
الإغلاق أجّل ذروة الوباء وأجل معها محاكمة المعارضة والإعلام والبرلمان لأداء الحكومة في التعامل مع المرض. إصابة جونسون أيضا منحت المحافظين وقتاً للملمة أوراقهم واستدراك جزء مما فاتهم من استعدادات للوباء كان يجب أن يقوموا بها منذ شهر فبراير أو مارس الماضيين على أبعد تقدير. وربما كان متاحاً أمامهم القيام بها قبل عام كامل، لو أصغوا لتلك التقارير الاستخباراتية التي حذرت من احتمالات وقوع كارثة صحية عالمية تشبه وباء كورونا.
عندما عاد رئيس الوزراء إلى الحياة بعد أيام من الصراع مع كوفيد – 19، كانت أحزاب المعارضة قد استفاقت من صدمة كورونا. لملمت أوراقها واستأنفت أدوات رقابتها الإعلامية والبرلمانية على أداء الحكومة. وجد جونسون نفسه أمام أزمات عدة. منها ما تسببت به الجائحة نفسها. ومنها ما كان قبلها ولكنه استمد بحضورها حلة جديدة أكثر تعقيداً. ما كان واضحاً في الأمس بات اليوم أكثر ضبابية وربما يحتاج إلى قراءة ثانية وربما ثالثة.
أفلحت حكومة المحافظين في تجنيب بريطانيا سيناريوهات فجة مثل إيطاليا وإسبانيا، ولكنها لم تستطع وقف أعداد الوفيات التي وصلت بها المملكة المتحدة إلى المرتبة الأولى أوروبيا، والثانية عالميا بعد الولايات المتحدة. يمكن تسمية هذا بنصف نجاح، ولكنه لن يكون مقبولاً إلا إن تمكنت الحكومة من إعادة الحياة للاقتصاد، دون أن تُعرّض البلاد إلى موجة ثانية من المرض تعيد كل شيء إلى الصفر.
تحاول الحكومة احتواء تضرر الأفراد والشركات من الوباء عبر برامج دعم سترهق خزينة الدولة. ولكن لا مفر منها ولا يوجد بين المعارضة من يختلف مع رئيس الوزراء فيها. الخلاف سيكون في المستقبل حول شكل الاقتصاد بعد زوال كارثة الوباء. هذا هو ميدان الصراع الذي سيجمع بين حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال.
قد يكون الحفاظ على الاقتصاد بحلته الرأسمالية، هو الأزمة الوحيدة التي أفرزها كورونا. لكن الوباء أرخى بظلاله على العديد من الأزمات الموجودة أصلاً فزادها تعقيداً. مفاوضات ما بعد الخروج بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي واحدة من هذه الأزمات. وربما يجبر الوباء حكومة لندن على تمديد المرحلة الانتقالية للخروج. خاصة وأن بروكسل تدفع نحو هذا الخيار، وكذلك العديد من الأطراف المحلية في المملكة المتحدة.
البقاء في الاتحاد الأوروبي لعام أو عامين آخرين سيمنع المملكة المتحدة من إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول وتكتلات أخرى حول العالم. ينطوي هذا على ضرر واضح لخطط الحكومة في استقلال البلاد عن الاتحاد، كما يقول أنصار الخروج. ولكنه قد يجنب المملكة المتحدة مخاطر الانقسام في ظل اتساع الهوة بين إنجلترا وبقية الأقاليم بسبب وباء كورونا أيضاً.
لقد زادت الجائحة من حجج أدنبرة وبلفاست للاستقلال عن لندن. ومكنتهما من إصدار قوانين واتخاذ إجراءات فصلت مساري اسكتلندا وأيرلندا الشمالية عن إنجلترا في مواجهة الوباء. يدرك جونسون ضرورة التصدي لمثل هذه المحاولات الانفصالية، ولكنه اختار تأجيل المواجهة بحجة أن أهل الأقاليم أدرى بشعابها ويعرفون جيداً كيف وأين يواجهون الوباء.
ربما أفلح جونسون خلال حياته السياسية في اختيار التوقيت المناسب لمواجهة خصومه. ولكن ذلك لا ينفي أبدا أن هذا الوباء وضع رئيس الوزراء وحكومته وحزبه أمام تحديات غير مسبوقة. خاصة وأن المصائب في زمن كورونا لا تأتي فرادى. ولا يشفع الدهاء لأحد في مواجهة جنون الجائحة.
صحافي سوري