حسان الحديثي
تجهّزت باحتياجاتي بعد العصر وتزوّدت بالوقود وصوّبت وجهي نحو الشمال وبدأت الرحلة من جديد. .....كانت الشمس تميل نحو الغروب عن يميني صفراء كوجه عاشق والمحيط عن شمالي ساكن لا يوتمن حتى انحرف بي الطريق امامي بعيدا عن الساحل وصار يعلو ويهبط بي على تلال وربوات كمركب تتقاذفه الأمواج حتى اذا اسدل الليل ستاره وتشربت الارض سواده ولم يُبق اثراً لضياء الا مروداً من النور امامي تجهر به مصابيح السيارة مشتتة سكون هذا الليل الثقيل اسعفتني نسائم باردات هبت من المحيط فأنعشت الفضاء ورطبت الاجواء وذكّرت الغريب بشاطئ الفرات ثم اشتعلت السماء بالنجوم فاستحالت كزينة عرس فشتتْ وحدته وآنست غربته.
كانت مدينة سانتا ماريا هي محطتي التالية ولكني وصلتها مبكراً أول الليل فتوقفت فيها قليلا ثم نظرت الى الخارطة وقلّبت المدن التي في طريقي فوجدت مدينة صغيرة تبعد ساعتين من سانتا ماريا اسمها "سان ميغيل" تصلح ان تكون محطة المبيت لتلك الليلة فلم افكر طويلا واستلمت جادة الطريق مرة اخرى الى سان ميغيل.
كان الطريق يمر باطراف مدينة سانتا ماريا ثم بدأت المباني تتباعد ولم اشعر بنفسي الا وانا في صحراء خالية من البشر الا من محطات الوقود المتباعدات، كان طريقاً موحشاً حقاً خالياً من اي شي الا بعض الشاحنات الكبيرة المتناثرة عليه شعرت بالوحشة وأحسست بالتعب والارهاق من جهد يوم طويل وغالبني النعاس حتى أشعرني بالقلق فقررت البحث عن مكان اقضي به ليلتي واريح جسدي من السفر وعنائه وتعبه ووعثائه حتى لو في محطة للوقود.
لم يطل البحث طويلاً حتى لاحت لي على البعد انوار سان ميغيل فكان كل همي ان اجد مكان لقضاء ليلتي.
لاح لي فندق انيق من طابقين يمين الطريق فملت اليه وواقفت سيارتي في باحة سيارات واسعة محاطة بكثير من الخضرة والاشجار ومكتوب على يافطة في مدخلة: "Paso Robles Inn" اي "خان باسو روبلز"، دخلت فوجدت سيدة مسنة على كاونتر الاستقبال الصغير منشغلة ببعض الاوراق، وما ان رأتني حتى ابتسمت وقالت:
- مرحبا بك في باسو روبلز كيف استطيع ان اخدمك سيدي
- احتاج غرفةً بحمام لليلة واحدة.
- تتوفر لدينا غرف مريحة مع وجبة فطور بعضها تطل على الحديقة الامامية وبعضها على الحديقة الخلفية لمبنى الخان
- كم هو رائع اعطني غرفة ولكن قبل ان اصعد احتاج وجبة عشاء مع كوب شاي.
ضربتْ الجرس فاتى رجل عجوز متحدب القامة اصلع الهامة فقالت له خذ حقيبة السيد الى الغرفة العلوية وابلغ المطبخ ان لديهم زبوناً على العشاء.
كانت صالة المطعم على الشمال وقد لمحت فيها بعض الطاولات المشغولة واصوات صخب صادر من رجال ونساء فيها، فالوقت ما يزال مبكراً انها التاسعة مساءً.
اخذت طاولة بجانب الشباك واعطيت طلبي للنادل وجميع من في المطعم ينظر الي وكأنني نزلت للتو من كوكب في السماء او فتقت جانباً من الارض وخرجت اليهم، لقد ساءني الجو أول وهلة، لكنني ما ان اخذت مكاني واستويت بالجلوس حتى ابتسم لي الجميع وصاح رجل منهم كيف كان يومك؟ يبدو انك مسافر من مسافة بعيدة.
- في الحقيقة انا مسافر من ارض بعيدة جداً.
- هل تقصد من داخل اميركا ام من خارجها
- من خارجها طبعاً، اقول لك من ارض بعيد
- لا تبدوا اسبانباً، بل لا تبدو أوروبيا حتى، ثم التفت الى من في المطعم وقال: هل انا على حق ولكن احداً لم يجبه وانتظر الجميع ردي عليه....
- لست اوروبياً ،انا من الشرق الأوسط، انا عراقي
لم يكن احد من الجالسين يتوقع ان يسمع باسم العراق تلك الليلة فضلا ان يقابل عراقياً قادماً من الجهة المقابلة لهم على الكرة الارضية.
وسط دهشة الجميع كانت الاسئلة تتقاذف من اعينهم ولا تجد مخرجاً على شفاههم ، وبدا الجميع مهتماً يود الأخذ باطراف الحديث والاستفهام عن سر وجودي في هذه البلدة البعيدة؛ من اين اتيت واين اتجه ... وغيرها من الاسئلة التي ربما منعهم من القائها عليّ وصولُ بيتزا الخضار التي طلبتها مع كأس الشاي.
لم اترك الحيرة في قلوبهم كثيراً فاخبرتهم انني عراقي اقيم في دبي جئت في رحلة عمل واخذت إجازة لاستكشف طريق البعثات التبشيرية على الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية وهذه ليلتي الثانية.
قرأت على وجوههم الارتياح لتواصلي معهم بالحديث وقد ارضيت فضولهم بالمعرفة وبدا لي الجميع مقدراً ومحباً حتى دعاني احدهم لقضاء ليلة اخرى للتعرف على هذه المدينة الصغيرة وزيارة اصطبلات الخيل المنتشرة فيها.
بدت لي فكرة قضاء بعض الوقت جميلة...
قلت له: ربما سأؤخر مغادرتي هذه البلدة لما بعد الظهر سيما وان المسافة بيني وبين سان فرانسيسكو لا تتجاوز الاربع ساعات بدون توقف كي كي أتعرف على مدينتكم اكثر.
كان علي ان اذهب للنوم وقد هدني التعب والإجهاد وخيم علي رأسي النعاس الذي لم يفلح كأس الشاي بدفعه او تشتيته.
حييت الجميع وصعدت الى غرفتي وما ان استلقيت على السرير حتى رحت في غياهب النوم بلا شعور ولا احلام ولم استيقظ الا على اصوات عاملة التنظيف صاحبة الصوت العالي وهي تفعل كل ما من شانه إزعاج النائم.
فتحت باب الغرفة كي اوبخها على الضوضاء الصادرة فبادرتني سيدة سمراء ممتلئة بابتسامة اتبعتها بضحكة ثم بصباح الخير، ثم قالت: انا اسفة يا سيدي لقد تعمدت اصدار الضجيج كي تستيقظ وتلحق بوقت الفطور فلم يبق عليه سوى نصف ساعة.....
- كم الساعة الان؟
-انها التاسعة والنصف يا سيدي والفطور يرفع في العاشرة
لم يكن امامي الا ان اشكرها واحمد ضوضاءها فقد اسرفت في النوم كثيراً
اكملت فطوري ورزمت حقيبتي الصغيرة وكنت جاهزاً لجولة المدينة عند الحادية عشر من صباح يوم مشمس مع درجة حرارة عالية نسبياً .
هذه المدينة فاتنة الجمال ومن يراها في الليل لا يتوقع جمالها في النهار فهي لطيفة الجو هادئة الحركة والناس فيها مبتسمون وديعون كانهم يعيشون في روضة كبيرة للاطفال وليس في هذا العالم المتلاطم بالعواطف المتضادة بالحب والكراهية والعصبية والتمييز العنصري الكريه.
لقد تركت في نفسي اثرا طيبا وكان قرار التأخر بها صائباً وليس علي الان سوى الانطلاق الى محطتي الاخيرة مدينة سان فرانسيسكو الشهيرة مرورا بمدينة سان خوسيه التي وصلتها مساءً وهي معقل التكنلوجيا وموطن وادي السيلكون ومقر شركات البرامجيات الكبرى: ياهوو، جوجل، ادوبي، إي بي وغيرها الكثير، فهنا تصمم البرامجيات ومن هنا تسوّق وتصدّر الى كل العالم.
وبعد ان تجولت في هذه المدينة التي زرتها مرات عديدة اصبحت على مرمى عصا من نهاية الرحلة فلا يفصل بين سان خوسيه وسان فرانسيسكو الا اربعون دقيقة فقط تسير اليها السيارة بطريق سريع بستة حارات لكل اتجاه مزدحم بالاف السيارات والشاحنات وعلى السائق فيه ان لا يغفل لحظة واحدة والا اصبح حطاماً ونسياً منسيا...
الليل يطبق مرة اخرى فتشربة المدينة، ولكنها سان فرانسيسكو هذه المرة، المدينة الاكثر صخبا في الجانب الغربي للولايات المتّحدة الأمريكيّة والاكثر حذراً في الليل والذي ما ان يحل حتى ينتشر المتسكعون في شوارعها كأعقاب السجائر ويبسط المشردون فرشهم البالية واغطيتهم العفنة على ارصفة الطرق ولن يكون الامر غريبا اذا رايت سرنجات الحقن ملقاة هنا وهناك فغالب هؤلاء المشردين مدمنون على تعاطي المخدرات وليس افضل من نصيحة لاخيك في هذه المدينة من ان تقول له الزم مكانك ليلا ولا تذهب الى مركزها فلربما فقدت ما تملك مع جروح وطعنات تودي بحياتك بسكاكين حادة من اجل حفنة من الدولارات تؤمن لهم جرعة تلك الليلة من سائل يحقن في الوريد او شمة مخدرة من مساحيق الموت البيضاء.
لن يستطيع الزائر ان يرى سان فرانسيسكو كلها ولو حرص ولو مكث فيها اياما وليالي طويلة لانها اوسع من أن تغطى، غير ان جسر البوابة الذهبيةGolden gate الشهير والذي بلغ عمره الخامسة والثمانين عاماً اهم معلم يراه المرء هناك اما سجن الكتراز الذي تحول الى موقع سياحي شهير والواقع على جزيرة بنفس الاسم تقع في خليج قريب من شواطي المدينة فهو حكاية اخرى ولكنها حكاية مشوبة بالخوف والحزن والالم ومن يزره يعد مضطرباً مرتبكاً وربما تمنى لو لم يذهب اليه....
انتهت رحلتي عند شواطي الهاديء الشمالية ولم تنته غرائب وعجائب ارضنا الواسعة والوان اهلها واطباعهم وميولهم وانفسهم المتقلبة بين الخير والشر والهدوء والنفور.
غير ان النفس -والحق يقال- لا ترتاح ولا تهدأ ولا تهنأ الا في الوطن فسلام عليك ايها الوطن من كل حبة تراب مشيناها وكل ذرة هواء شممناها...