أفلام الشعارات

بقلم أمير العمري تشرين1/أكتوير 05, 2016 811

أفلام الشعارات
أمير العمري
جاءني قبل نحو سبعة عشر عاما بشريط فيديو حمله معه من القاهرة إلى لندن خصيصا، واتصل بي وقال إنه أخرج فيلما خطير الشأن، يعتبره كشفا من الكشوف السينمائية، فهو يسلط الضوء على جانب مجهول في حياتنا.
ورحبت ترحيبا شديدا بشريط الفيديو في نسخته “دي إتش إس”، فلم نكن قد دخلنا بعد عصر الأسطوانات المدمجة و”البلو راي”، وحرصت كثيرا على النسخة التي أخبرني أنها النسخة الوحيدة من الشريط، وأنه لم يمنح غيري نسخا من فيلمه الذي أنتجه أيضا على نفقته الخاصة.
منيت نفسي بمشاهدة تحفة بصرية وفنية في مجال الفيلم الوثائقي، فقد كان صاحبنا سينمائيا معروفا، ولا شك في إخلاصه لفنه وصنعته، بل وحبه الذي لا شك فيه لبلده، ووطنيته التي تشتعل بالحماس، لكنه لم يكن قد أخرج أفلاما من قبل.
وقد قلت لنفسي “لا بأس فربما يستطيع بخبرته الطويلة في العمل السينمائي، أن يعثر على أسلوب ولغة وطريقة ومدخل لموضوع بالأهمية التي يوليها له”.
وعندما جلست أشاهد الفيلم المنتظر، فوجئت بأنني أولا أمام صورة داكنة السواد والهباب، مليئة بالحبيبات، ليس من الممكن التعرف على تفاصيلها بسهولة، تنبعث منها أصوات متحشرجة لا يمكنك تبينها، ثم تمر لقطات مرتجفة يسيطر على معظمها شخص بدين له صوت أجش، يتحدث عن بطولاته في معارك حرب عام 1956، أي وقت العدوان الثلاثي على مصر.
وبين آونة وأخرى تظهر البعض من اللقطات التسجيلية لعمليات الإنزال الجوي البريطاني في بورسعيد والبعض من معارك الميناء في بور فؤاد وغير ذلك، وهي لقطات سبق أن شاهدنا منها الكثير من أرشيف التلفزيون البريطاني في الكثير من الأفلام التسجيلية.
باختصار، لم أجد نفسي أمام فيلم محكم له بناء ونسق وأسلوب، يتمتع بخيال في صياغة النسق ووضع الصور في سياق، بل مجرد مجموعة من الصور المشتتة المرتجفة الرديئة لشخص لا أعرفه ولا أعرف ماذا يقول، بل ولا يمكنني أصلا الثقة في ما يرويه عن نفسه، وهو الذي يجلس أمام الكاميرا يروي من الذاكرة.
ومع ذلك، فالمشكلة لم تكن تتركز في هذا الأمر فقط، بل جاءت صدمتي الحقيقية عندما اكتشفت أنني لست أمام فيلم أو عمل سينمائي فني مصنوع بخيال وحنكة وروية ورؤية، بل مجرد شعارات عن البطولة والنضال ضد الاستعمار، مع صور أقرب ما تكون إلى ما يصوره الهواة بكاميرا الفيديو.
يومها أصبحت للمرة الأولى أدرك أن صديقي هذا، الذي أكن له كل حب وتقدير، قد يكون حرفيا عظيما في ضبط العدسة والمنظور وقياس البعد البؤري بدقة والتحكم في العدسات وزوايا التصوير وتوزيع الإضاءة، أما من ناحية التمتع برؤية سينمائية، وهو الأمر الذي يجعل فيلما يختلف عن فيلم آخر، ويحقق لأي عمل فني قيمة تبقى، فقد كان هذا بعيدا عن مجال الفيلم تماما.
ولعل القارئ يتفق معي في أن عقم الفكر والخيال السينمائيين، من أسباب عدم تطور السينما كثيرا في مصر، بعد أن طغت الشعارات على الخيال الجميل، وأصبح الاحتفاء بالبطولات – حقيقية كانت أم مصنوعة- أهم من الصدق الفني، وأصبح الفيلم الوثائقي وسيلة “إعلامية”، أي للدعاية فقط، بدلا من أن يكون أداة للتنقيب في الواقع ورصد سلبياته والبحث عن جمالياته أيضا.
ومع تطور الأحداث السياسية خلال السنوات الخمس الأخيرة أصبحت أفلام الشعارات تطغى على الفن في السينما الوثائقية التي تنتج في العالم العربي بشكل عام، وأصبح كل من يمكنه العثور على كاميرا صغيرة، يعتقد أنه قد أصبح مخرجا سينمائيا، يحمل فيلمه ويذهب بجرأة إلى المهرجانات السينمائية ليعرض ما صوره باعتباره فيلما عظيما ويطالب أيضا بالحصول على الجوائز، بل ويمكن أن يفوز فيلمه حقا بالجوائز بعد أن أصبحت مهرجانات السينما في العالم العربي مناسبات لتبادل المصالح والمجاملات، مع رفع أكبر عدد من شعارات تشجيع الشباب وأفلام الشباب
ناقد سينمائي مصري مقيم في لندن


سراب/12

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه